السبت، 3 أكتوبر 2015

أبو عمار: 75 كوكبًا

نضال لا يُنسى


عرفات يستقبل وفود المؤيدين في 2004




ياسر عرفات قائد الشعب الفلسطيني ومفجر ثورته الحديثة، وأحد أبرز القادة العظام في العالم خلال القرن العشرين، خاض نضالا وجهادا لا يلين طوال أكثر من نصف قرن على مختلف الجبهات، أعاد الحياة لاسم فلسطين ولقضية شعبها في الوعي الإنساني، ووضع القضية الفلسطينية على الخارطة السياسية العالمية.

ومنذ ولادته حتى استشهاده، كأن فلسطين كانت على موعد مستمر معه ومع ذاتها، فقد حمل "ياسر" في مسيرة حياته كلها فلسطين .. وطنا وقضية .. أملا وهما .. حملها والتصق بها إلى درجة صار فيها الاسمان مترادفين لسنوات طويلة .. إن ذكرت فلسطين .. ذكر عرفات .. وإن قلت عرفات .. عرف الباكستاني والهولندي والروسي والكوبي والصيني والأميركي والاندونيسي ...أنك تعني فلسطين .

ولعل ظروف النشأة الأولى لـ"محمد ياسر " أو "ياسر" هي التي صقلت شخصيته وأكسبته تلك الصبغة والقدرة المتميزة التي جعلت منه باعث الكيانية الوطنية الفلسطينية، وقائد ثورة اللاجئين الذين كادت قضيتهم أن توضع على "الرف ".. لولا ذلك الجهد الهائل والنضال المتراكم لمئات الآلاف ممن قادهم ياسر عرفات في معركة إثبات الوجود ونفي النفي ... وفي معركة تكريس حقيقة وجود الشعب الفلسطيني ومنع اندثار قضيته أو تبعثرها.

وتلك النشأة أيضا في القدس وفي ملاعب الطفولة بين جنبات الحرم القدسي الشريف ومسجد قبة الصخرة وحائط البراق وكنيسة القيامة ،هي التي جعلت وأبقت القدس حبيبة عزيزة على قلبه وعقله ..رفض التنازل عنها حتى دفع حياته ثمنا لوفائه لها.

الياسر: سيرة ومسار

ولد "محمد ياسر" عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني .. الذي اشتهر لاحقاً باسم ياسر عرفات في القدس يوم الرابع من آب / أغسطس 1929 ليكون ترتيبه السادس في أسرة الأب عبد الرؤوف داوود عرفات القدوة الحسيني، والأم زهوة خليل أبو السعود، وذلك في منزل في الزاوية الفخرية؛ زاوية آل أبو السعود في الجهة الجنوبية الغربية من الحرم القدسي الشريف.

نشأ ياسر عرفات في أجواء أسرية حميمة برعاية والده الذي كان يعمل في التجارة متنقلاً بين القدس ـ حيث كان يمتلك متجراً للحبوب في سوق خان الزيت ـ وغزة والقاهرة، وأمه زهوة التي كانت تقيم مع زوجها في القاهرة و تزور القدس في كل عام، خاصة في فترات الولادة جرياً على عادة العائلات في ذلك الوقت. وكانت تقيم مع أطفالها في منزل شقيقها سليم. وقد أنجبت ياسر وفتحي في ذلك البيت،وكانت قد سكنت مع زوجها قبل سفر العائلة إلى مصر في" الميلوية" وفي" الواد" قرب الحرم القدسي. ورافقت زهوة زوجها عند انتقاله إلى القاهرة، التي سافر إليها ليتابع قضية ميراث له من وقف الدمرداش ـ وهو من أكبر الأوقاف في مصر ـ وعمل عبد الرؤوف في تجارة القطن في القاهرة. وكانت زهوة تتردد كثيراً على القدس، ومعها ياسر، حتى وفاتها سنة 1933 بمرض في الكلى، وياسر ما زال دون الرابعة من عمره.

بعد وفاة "زهوة"، وبناء على طلب شقيقها سليم، وافق عبد الرؤوف على أن يبقى ياسر وشقيقه الأصغر فتحي ـ الذي ولد في القدس أيضاً قبل أشهر من وفاة أمه ـ ليعيشا في كنف خاله سليم أبو السعود وزوجته في القدس.

لم يكن سليم وزوجته قد رزقا بأولاد فأحاطا اليتيمين بالحب والرعاية، وعاش الولدان معهما سنوات أربع في القدس، و كانت الأجواء العامة المحيطة بحياتهما فيها أجواء صراع ونزاع ..احتلال ونضال ومقاومة ..فقد ولد ياسر في ذات سنة ثورة "البراق"1929، وعاش طفولته المبكرة ليشهد في القدس إرهاصات وبدايات ثورة 1936،ونشأ في وسط يعج بالمناضلين الوطنيين، الأمر الذي أثر عليه كثيراً، حتى أن معظم ألعابه كانت تشتمل على بنادق خشبية وتمثيلا لجنود وضباط، كما قال شقيقه فتحي، الذي يضيف أن ياسر كان يقول له " تعال نلعب لعبة تحرير فلسطين".

وفي القدس تفتحت عيناه على هذه المدينة المحافظة، التي تعبق بالتاريخ وتعج بالقداسة في كل مكان فيها. وتعرف فيها، لاحقاً، إلى الحاج أمين الحسيني عن طريق الشيخ حسن أبو السعود.

وفي السابعة من عمره شهد الطفل ياسر عرفات جانباً من أحداث ثورة 1936. وكغيره من الأطفال ساهم ياسر عرفات في رشق الحجارة وفي وضع المسامير أمام عجلات الدوريات البريطانية، وكان موجوداً عندما دهم جنود الاحتلال البريطاني منزل خاله سليم واعتقلوه بقسوة وعنف. وتعرض ياسر بنفسه للضرب من الجنود البريطانيين الأمر الذي ترك أثراً كبيراً في "الطفل" ياسر.

وفي العام التالي انتقل ياسر ليعيش في كنف والده في القاهرة.. المحطة التي استقر فيها بعد تنقل في عمله التجاري بين القدس وغزة والقاهرة خلال السنوات الثماني الأولى من حياة ياسر 1929 -1937 ، وكان الأب يصحب ابنه ياسر معه في بعض سفراته إلى غزة والقاهرة.


المولد والنشأة




البداية في القاهرة

انتقل ياسر وشقيقه فتحي بصحبة ابن خالة أمهما راجي أبو السعود إلى القاهرة في العام 1937 في رحلة بالقطار مروراً بغزة وخان يونس وسيناء. ولكن علاقة ياسر بالقدس لم تنقطع بعد وصوله إلى القاهرة، وكان خاله يذهب إلى القاهرة لإحضار أبناء وبنات أخته لقضاء الصيف في القدس في كل عام، واستمر ذلك حتى بدايات الحرب العالمية الثانية.

وعاش ياسر مع والده عبد الرؤوف وزوجته نظيرة غزولي وباقي أفراد الأسرة (إنعام وجمال ويسرى ومصطفى وخديجة وفتحي ). و نظيرة غزولي مصرية، وهي الزوجة الثانية لعبد الرؤوف تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى "زهوة".

عاشت الأسرة في بيت مستأجر بالمبنى رقم 5 في شارع طور سينا بحي السكاكيني في القاهرة، وكان والد ياسر صارما يفرض انضباطا ونظاما نموذجيين في بيته...كان رجلا متدينا ،يؤدي فروضه الخمسة يوميا، ويقرأ القرآن بانتظام، وقد علم أبناءه أصول الإسلام المعتدل، مشددا قبل كل شيء على احترام الآخرين. الأمر الذي ترك بصمات واضحة على شخصية الأبناء. وقد قال ياسر فيما بعد: توفي أبي دون أن يترك لي إرثا ماديا، ولكنه، في الواقع، أورثني كنزين : الشجاعة والإيمان الديني .

تعلق ياسر، خلال سنواته الأولى في القاهرة، بأخته الكبرى إنعام التي كانت تكبره باثنتي عشرة سنة، وأحبها كأنها أمه، حتى أن ياسر وبعض رفاقه من "فتح" كانوا يطلقون عليها لقب "أم المؤمنين"، وكان في طفولته وصباه يقول لها:" نعم سيدي الجنرال" عندما كانت تلومه أو تعنفه، ومن ذلك عندما لامته لأنه هرب من المدرسة ليلتحق بأصدقائه.


عرفات في القاهرة




الدراسة الأولى

بعد وصوله إلى القاهرة التحق ياسر بالصف الأول في مدرسة خاصة تدعى"مدرسة مصر"، وتضم فصولاً من الحضانة فالابتدائية فالثانوية. وحرص ياسر في هذه المرحلة أيضا على أن يظل قريبا من شقيقه الصغير فتحي، يحيطه برعايته واهتمامه رغم صغر سنه هو أيضا، فقد كانا مرتبطين معا بعلاقة خاصة جدا منذ ولادة فتحي سنة 1933. وبرزت مواهب ياسر القيادية وميله لممارسة السلطة في المدرسة، وأولها انه كان يتولى المسؤولية عن شقيقه الأصغر فتحي، وأتقن في سن مبكرة الأعمال المنزلية، رغم أن شقيقاته الكبيرات كن يقمن بها، لكنه كان، أحياناً، يعد الإفطار والشاي للأسرة . وأتقن كي الثياب وحياكة الملابس، ورتق الجوارب، وتثبيت الأزرار، وإصلاح الأحذية.

وبرزت مواهبه الهندسية في طفولته، فأصبح مسؤولا عن أعمال الصيانة المنزلية، وقبل بلوغه العاشرة كان باستطاعته إصلاح الحنفيات والأحواض ..كان يعرف منذ مرحلة مبكرة، و كذلك كان أفراد أسرته يعرفون أنه سيصبح مهندسا .

واشتهر ياسر في المدرسة الابتدائية بشخصيته القيادية، وقدرته على تنشيط ملكاته الذهنية وإشاعة جو من التحفز الذهني والتحدي الخلاق. وكان يجمع سدادات الزجاجات وعلب السجائر والورق المقوى والمعلبات وصناديق الكرتون لاستخدامها في "اختراعاته ". وهنا ظهر ميله للتنظيم والتخطيط والتطوير، فقد كان، مثلا، ينقل فكرة لعبة ماو"يخترع " لها الأدوات اللازمة، ويختبرها بنفسه، ثم يمررها لشقيقه فتحي والأطفال الآخرين، ويشكل الفرق لممارستها في حيه، ثم يقوم بتنظيم مباريات تنافسية مع فرق من أحياء وشوارع مجاورة. وكان دائما هو قائد اللعب، لكنه لا يتأخر عن الاعتراف بأخطائه، و كذلك لم يكن يتأخر عن الدفاع عن "كرامة" شقيقه وبقية الأطفال من مجموعته ما أكسبه احترامهم ومحبتهم .

ونظم ياسر أول " جنازة ذات طابع عسكري"، وأشرف على إعداد تفاصيلها بنفسه، ولم يكن له من العمر سوى أحد عشر عاما. كانت تلك جنازة قطه الأشقر "مشمش"، الذي شغف به ياسر وفتحي كثيراً، حتى أنهما كانا يرقدانه بينهما على سريرهما الكبير المشترك، ويشركانه في كل ألعابهما. وانسجاما مع ظروف الحرب، قرر ياسر أن يقيم له جنازة عسكرية: لف جثة القط بقماشة ووضعها في علبة كرتون أعدها بنفسه، ثم اتخذ موقعه على رأس موكب الأطفال وسار بهم بخطى وئيدة نحو أرض خلاء حيث دفنوه، وألقى ياسر كلمة في تأبين " الفقيد".

وشرع ياسر في قراءة الصحف في سن مبكرة . وفي أثناء الحرب العالمية الثانية شاهد ياسر آلاف اللاجئين يتدفقون على القاهرة بعد وصول قوات ألمانية وإيطالية إلى خط العلمين في غرب مصر، وكانت صور الدمار الذي تحدثه القنابل في الإسكندرية تملأ صفحات جريدة "الأهرام" .ووصل عدد من اللاجئين إلى المدرسة والمستشفى في حي السكاكيني، وكان ياسر وأصدقاؤه يزورونهم ويطلعون على معاناتهم، فعرفوا مبكرا معنى اللجوء .

زاد اهتمام ياسر بالأحداث السياسية، وبالخرائط والأسلحة، وكانت شوارع القاهرة خلال الحرب تعج بالجنود البريطانيين والهنود والاستراليين.. والنازحين واللاجئين، خاصة القادمين من الإسكندرية.. فعاش أجواء الحرب . وعندما كانت صفارات الإنذار تنطلق ليلا كان السكان يسارعون إلى إطفاء الأنوار والنزول إلى الملاجئ. وكان ياسر وشقيقه فتحي يتلوان القرآن معا في هذه اللحظات، وهما على قناعة تامة أن الله سوف يحميهما .


عرفات في الابتدائية








الدراسة الثانوية

في العام 1942 التحق ياسر بالمدرسة الثانوية وهو في الثالثة عشرة من عمره، و بدأ يوسع معارفه من خلال قراءة الصحف والمجلات و الكتب المتنوعة من الخفيفة إلى الأدبية والدينية والتاريخية. ومع قدوم ابن عمه محمد جرار عرفات القدوة من غزة إلى القاهرة لدراسة الأدب في جامعتها " جامعة فؤاد الأول " أضاف ياسر إلى مكتبته الشخصية مجلدات في علم السياسة والتحليلات السياسية حصل على بعضها من محمد جرار الذي عاش مع أسرة ياسر في السنوات 1941-1946.

وفي هذه المرحلة، فهم ياسر وعاش معنى التسامح الديني، فقد كان بين جيرانه وأصدقائه المسلم والمسيحي واليهودي، وفيها أيضا بدأ نشاطه السياسي مبكرا من خلال المناقشات السياسية التي انخرط فيها ياسر، وكانت تدور حول تحرير الوطن والاستعمار، ومبادئ العدالة والثورة وحقوق الإنسان.

وخلال سنوات دراسته في المرحلة الثانوية، تعرف ياسر بفتاة تقيم في المنزل المجاور لمنزله. كانت بين الأسرتين علاقات صداقة، فيذهب ياسر وجارته "نادية" معا إلى المدرسة مرة في الأسبوع، وربما مرتين، ويقطعان الطريق بطولها في الثرثرة. أحبها ياسر حبا جما، ذلك النوع من الحب الأول الساذج، النقي، الأفلاطوني بحسب تعبير شقيقه فتحي، الذي قال أن هذا الحب قد انتهى مع بدء انشغال ياسر بالسياسة.

وطرأت تغيرات كبيرة في حياة أسرة ياسر عرفات خلال دراسته في المرحلة الثانوية: ففي العام 1942تزوجت يسرى، شقيقة ياسر، من جرير القدوة، الذي كان يعمل مدرسا في مدرسة خان يونس الثانوية. وفي العام التالي 1943 توفيت زوجة الأب السيدة نظيرة. وفي العام 1944 تزوج عبد الرؤوف من زوجته الثالثة " فاطمة الزهراء حمدي"، وهي مصرية أنجبت له محسن وميرفت ومديحة

وفي العام 1947 تزوجت إنعام من ضابط في الجيش المصري استشهد أثناء مشاركته في حرب 1948. وهي السنة التي انتقلت فيها الأسرة إلى بيت جديد في منطقة "هليوبوليس" بالقاهرة.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، كانت قضيتا: التحرر من الاستعمار، وهجرة اليهود إلى فلسطين، من أبرز القضايا التي تتصدر النقاشات السياسية واهتمامات الأحزاب في فلسطين والدول العربية. وكان الطلاب يعلنون انتماءاتهم السياسية، ومال ياسر عرفات في هذه المرحلة إلى ما كانت تطرحه حركة "الإخوان المسلمون" من أفكار، خاصة لأنها كانت ترفض الأطماع الصهيونية في فلسطين، لكنه لم ينتم إليها البتة.

وكان ياسر يتردد كثيراً على بيت الشيخ حسن أبو السعود في القاهرة، التي أقام فيها بعد أن نفته سلطات الانتداب البريطاني من فلسطين في العام 1945. وكان منزل الشيخ حسن يستقبل رجال الدين والعلم والسياسة والنضال في مصر والعالم العربي، ما أفاد ياسر ووسع من علاقاته ومداركه. وفي العام 1947 انتقل ياسر إلى مدرسة كبيرة هي" مدرسة الملك فاروق الأول الثانوية"حيث ساهم ياسر، مع مجموعة من أصدقائه، في تحويلها من مدرسة هادئة لا تشارك في التظاهرات والمسيرات الطلابية إلى المدرسة الأكثر فاعلية في تنظيم التظاهرات وإطلاقها. وتم إيقاف ياسر عن الدراسة عدة مرات بسبب ما اعتبره ناظر المدرسة"المدير" الدور القيادي لياسر في التظاهرات .

وبعد صدور القرار 181عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني /نوفمبر1947 تصاعدت حدة التظاهرات في العاصمة المصرية، وشارك فيها ياسر وشقيقه فتحي، وتعرضا للضرب بالهراوات عدة مرات، ولأن ياسر كان يتقدم الصفوف في التظاهرات فقد كان يتعرض للاعتقال في مرات كثيرة.

وبدأ ياسر في ذات السنة 1947 بالمساهمة مع مصريين وفلسطينيين آخرين في عمليات شراء وجمع الأسلحة، خاصة من البدو في صحراء العلمين بمصر، وذلك لحساب "قوات الجهاد المقدس "بقيادة عبد القادر الحسيني الذي كان يتلقاها في بيته بالقاهرة ثم يرسلها إلى فلسطين


عرفات في الثانوية




طالب وضابط ومناضل

كان ياسر عرفات طالبا في السنة الأولى في كلية الهندسة عندما استشهد عبد القادر الحسيني يوم 7 نيسان /أبريل 1948 في معركة جبل القسطل بالقدس.

وبعد ذلك بيومين في التاسع من نفس الشهر ارتكبت المنظمتان اليهوديتان المتطرفتان"الأرغون "و"شتيرن" مجزرة دير ياسين حيث قتل الإرهابيون نحو 360 شخصا من أهل القرية وكان معظم الضحايا من الأطفال والنساء وكبار السن.

تأثر عرفات بشدة بتطورات الأحداث في فلسطين فأحرق مع صديقه حامد أبو ستة كتبهما أثناء اجتماع في بيت للإخوان المسلمين في القاهرة،وقرر ياس رأن يتوجه إلى فلسطين لحمل السلاح دفاعا عن أرضه وشعبه.

بعد أيام وصل ياسر وحامد إلى غزة برفقة ضابط من"الإخوان" ،قاتل ياسر مع قوات الإخوان المسلمين التي كانت قدمت من مصر وحاصرت "كيبوتس"كفار داروم بجنوب فلسطين .ثم انضم إلى "جيش الجهاد المقدس " وعين ضابط استخبارات فيه .

بعد هزيمة الجيوش العربية في 1948 عاد ياسر إلى القاهرة وقد تبدلت أحواله كليا :شهد النكبة تحل بشعبه، لامس محنة اللاجئين ، وعاش هزيمة الجيوش العربية غير المنضبطة وسيئة التسليح والتنظيم ،فخرج بنتيجة تقول "لا يمكن للفلسطينيين إلا الاعتماد على قواهم" .

وفي العام 1949 عاد ياسر عرفات إلى كلية الهندسة ، ومنذ ذلك الوقت أخذت النشاطات السياسية جل وقته إضافة إلى دراسته الجامعية وعمله كمدرس رياضيات في مدرسة ليلية لتحمل نفقات دراسته المساعدة في نفقات الأسرة التي تراجع وضعها المادي، خاصة بعد أن قررت السلطات المصرية إبعاد الأب عبد الرؤوف في 1949 إلى غزة بحجة انه فلسطيني غير حائز على إقامة دائمة في مصر.

أسس ياسر عرفات مع عدد من الطلاب الفلسطينيين رابطة أسموها "رابطة الطلاب الفلسطينيين" في العام 1950وانتخب ياسر عرفات رئيسا لها في العام 1951وتعرف إلى القائدين الثوريين المصريين كمال الدين حسين وخالد محيي الدين في مؤتمر طلابي كبير عقد في جامعة الملك فؤاد في أيار /مايو 1951"، وهما من الضباط الأحرار الذين قادهم جمال عبد الناصر في ثورة 23تموز/يوليو 1952".وفي المؤتمر ألقى ياسر عرفات كلمة باسم فلسطين بعد أن أقنع منظمي المؤتمر بإدراج كلمة فلسطين ضمن جدول أعمال المؤتمر، وفيها قال"أيها الزملاء، لا وقت للكلام ولندع الرصاص يتكلم".

وشارك عرفات في دورة تدريب عسكري نظمتها الجامعة لمدة ثلاثة أشهر ثم في دورة صيفية أخرى لمدة شهرين ، وحصل على شهادة ضابط احتياط ، وعين ضابطا مسؤولا عن الإعلام والتدريب لطلاب الهندسة الراغبين والمؤهلين للمشاركة في الأعمال الفدائية والمقاومة العسكرية ضد البريطانيين في منطقة قناة السويس .

فاز ياسر عرفات في انتخابات رابطة طلاب جامعة القاهرة في العام 1952 وأصبح رئيسا للرابطة، وبقي محتفظا بالمنصب حتى نهاية دراسته في العام 1955.

ومنذ العام 1951 أصبح ياسر عرفات معروفا على مستوى الحركة الطلابية العالمية، وشارك في مؤتمرات طلابية في عدة دول، مثل بلغاريا ،الاتحاد السوفيتي ،تشيكوسلوفاكيا ،بولندا وألمانيا الشرقية ، وأنشأ خلالها شبكة واسعة من العلاقات والصداقات والتحالفات ، وكانت قضيته الأساسية شرح أوضاع شعبه ونضاله الشجاع أمام الرأي العام العربي والعالمي ،والمطالبة بحقوقه السياسية والإنسانية العادلة. بعد ثورة 23تموز/ يوليو 1952 سعى رئيس رابطة طلاب جامعة القاهرة "ياسر عرفات" إلى لقاء الرئيس الجنرال محمد نجيب ،وسلمه "عهد وفاء من الطلاب الفلسطينيين"مكتوبا بدمهم وفيه الكلمات"لا تنس فلسطين".ونشرت الصحف المصرية في اليوم التالي صورة نجيب يستقبل عرفات ، وكانت تلك أول صورة لياسر عرفات في سلسلة طويلة لاحقة تنشر له مع سياسيين وعظماء.

وفي حزيران/ يونيو 1953 توفي عبد الرؤوف عرفات،والدياسر، في منزل ابنته يسرى في خان يونس إثر نزيف في المخ. وأخفت أخته خديجة نبأ الوفاة عن ياسر لأنها لم ترغب في التشويش عليه عشية تقديمه لامتحان مهم في الهندسة ،كان موعده في اليوم التالي لتسلمها برقية من شقيقتها يسرى تعلمها فيها بخبر وفاة والدهم .

وفي هذه المرحلة الجامعية تعرف ياسر إلى عدد ممن أصبحوا رفاق دربه في قيادة الثورة الفلسطينية ومنهم صلاح خلف "أبو إياد"في القاهرة وخليل الوزير "أبو جهاد" في غزة في العام 1954 . كان أبو جهاد تلقى تدريبا عسكريا لدى الإخوان المسلمين، وأسس نواة للفدائيين في قطاع غزة..وكان الفدائيون الذين ينظمهم أبو جهاد ينتمون بشكل أساسي إلى شرائح الطلاب واللاجئين يزرعون الألغام والمتفجرات على طريق دوريات الجيش الإسرائيلي.

اعتقلت السلطات المصرية ياسر عرفات بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر على يد جماعة الإخوان المسلمين في تشرين الأول/أكتوبر 1954 لأنه كان ناشطا طلابيا ويعتبر من المتعاطفين مع الإخوان مع انه لم ينضم إليهم البتة.ومكث عرفات شهرا في السجن .

تخرج ياسر من الجامعة في العام 1955 ، وعقب تخرجه أسس رابطة الخريجين الفلسطينيين. ووسع علاقاته مع الاتحادات الطلابية والمنظمات السياسية على امتداد العالم ،وواصل التردد على الضفة الغربية وغزة والأردن .

وفي عامي 1956-1957، عمل ياسر عرفات مهندسا في الشركة المصرية للإسمنت في المحلة الكبرى، وهي منطقة صناعية ضخمة تقع في دلتا النيل.

التحق عرفات بالجيش المصري فور اندلاع حرب السويس في 28 تشرين الأول /أكتوبر 1956 "العدوان الثلاثي" كضابط احتياط في وحدة الهندسة المتمركزة في منطقة بور سعيد،واستخدم ياسر كل معلوماته ومخزونه من التدريبات التي تلقاها قبل عام في معسكر للجيش المصري.




عرفات في الجامعة






بداية نضال"المهندس"

تغير الجو السياسي في مصر بعد انتهاء حرب السويس 1956 وفشل العدوان الثلاثي: فقد أعاد بن غوريون سيناء وقطاع غزة لعبد الناصر، و أصبحت السلطات العسكرية المصرية تراقب بحزم التيارات الفلسطينية "الراديكالية"، فقرر ياسر عرفات السفر إلى الكويت حيث توفر الثروة النفطية فيها العديد من فرص العمل، وفيها جالية مهمة من فلسطينيي الشتات (الآلاف من اللاجئين الذين يعملون في شتى المهن)

استقر عرفات في الكويت عام 1957وعمل في البداية مهندسا في وزارة الأشغال العامة، ثم تشارك مع رجل أعمال هو المهندس المصري عبد المعز الخطيب وأنشأ معه شركة للبناء نجحت بشكل كبير فتحسنت أوضاعه المادية كثيرًا، لكنه كان أيضا يكرس الكثير من وقته لنشاطاته السياسية السرية.وفي أواخر العام 1957عقد لقاء في الكويت ضم ستة أشخاص هم : ياسر عرفات وخليل الوزير وعادل عبد الكريم ويوسف عميرة وتوفيق شديد وعبد الله الدنان الذي لم يشارك في الاجتماعات اللاحقة ثم تبعه توفيق شديد في الانقطاع عن حضور الاجتماعات التأسيسية للحركة ،وكانت تلك الاجتماعات هي اللبنات المؤسسة للحركة وفي اللقاء التأسيسي الأول لحركة ( فتح ) ، صاغ المؤسسون ما سمي ( هيكل البناء الثوري ) و(بيان حركتنا ) واتفقوا على اسم الحركة كما يقول عرفات: "هي حركة التحرير الوطني الفلسطيني واختصارها "حتوف"، وهي كلمة ليست مناسبة ،حذفنا الواو فأصبحت "حتف" وهي ليست مناسبة لأن شعارنا ثورة حتى النصر وليست ثورة حتى الاستشهاد،ولذلك قلبنا الحتف فصارت"فتح".. ثورة حتى النصر المبين "

وكان الهدف بسيطا ولا ينطوي على أية اعتبارات اجتماعية أو إيديولوجية، فقد اقتصر على "تحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح". لقد ملّ الفلسطينيون من الخطابات: " نحن الفلسطينيين نريد دولة مستقلة وذات سيادة، ولهذا يتوجب علينا أن نحررها بالقوة. لا يوجد طريق آخر أمامنا".

وبمبادرة من خليل الوزير وياسر عرفات تم إصدار صحيفة شهرية في تشرين الأول 1959 هي "فلسطيننا - نداء الحياة"التي طبعت ووزعت في لبنان ودول الخليج العربية والجزائر ،لكنها كانت توزع سرا بين الفلسطينيين في سورية ومصر والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة والعراق .

قامت مجلة ( فلسطيننا ) بمهمة التعريف بحركة فتح ونشر فكرها ما بين 1959 – 1964 واستقطبت من خلالها العديد من أعضاء المجموعات التنظيمية الثورية الأخرى ، فانضم في تلك الفترة كل من عبد الفتاح حمود ،صلاح خلف ،محمود عباس ،ماجد أبو شرار ،سليم الزعنون،أحمد قريع ،فاروق قدومي ،صخر حبش ،هاني الحسن ،هايل عبد الحميد ،يحيى عاشور ،زكريا عبد الحميد ،سميح أبو كويك وعباس زكي وغيرهم الكثير إلى صفوف الحركة الناشئة .

ولإدراكه للدور الذي يجب أن تلعبه المنظمات الطلابية أسس عرفات الإتحاد العام لطلاب فلسطين في 29تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1959.


بداية التأسيس في الكويت




ذكريات الجزائر

بعد انتصار الثورة الجزائرية في 1962 وبعد تشكيل رئيس الجمهورية المنتخب أحمد بن بيلا أول حكومة للجزائر الحرة، دعت القيادة الجزائرية جمال عرفات "الشقيق الأكبر لياسر " إلى زيارة الجزائر عرفانا له بما كان قدمه لأشخاصهم ولعائلاتهم وللثورة الجزائرية في أيام نضالهم وتواجدهم في مصر أو في السجون. وعرضوا عليه وظيفة مستشار لشؤون القضية الفلسطينية في الحكومة الجزائرية وقبلها.

وفي العام التالي 1963اصطحب ياسر عرفات رفيق دربه خليل الوزير في زيارة إلى الجزائر وقدمهما جمال عرفات إلى أحمد بن بيلا ومحمد خيض، و كانت مكاتبهما في نفس المبنى الحكومي الذي فيه مكتب جمال .وحظي الوفد الفلسطيني بدعم كبير في عدة مجالات من القيادة الجزائرية . وأسندت" فتح" إلى جمال عرفات مهمة تمثيلها في الجزائر قبل تكليف خليل الوزير بعد ذلك بأشهر بهذه المهمة ، وكان مكتبها في الجزائر أول مكتب رسمي للحركة في الدول العربية .

وفي آذار /مارس من العام 1964 وبدعم من الجزائر سافر ياسر عرفات وخليل الوزير إلى بكين بدعوة من القيادة الصينية . وكانت المقابلة بمثابة انتصار مهم لـ "فتح"،ومع أن الصينيين نصحوا عرفات بالتريث قبل الدخول في الكفاح المسلح إلا أنه تلقى وعدا منهم بالحصول على مساعدتهم بمجرد اندلاع المعارك الأولى .


عرفات جالسا الثاني من اليمين أخر الخمسينات




منظمة التحرير الفلسطينية

واصل عرفات ورفاقه في "فتح" نشاطاتهم وتحركاتهم واتصالاتهم تحضيرا لبدء مرحلة الكفاح المسلح. وفي اجتماع عقد بالكويت في شباط /فبراير 1963 انتخب فيه الأعضاء العشرة للجنة الـمركزية لحركة "فتح"،كان عرفات في طليعتهم و متحمساً لانطلاق الكفاح الـمسلح، ولكنه كان يشكل مع مؤيدي هذا الرأي أقلية : فقد وقفت الأغلبية مع خالد الحسن الـمعتدل، الـمؤيد لفكرة التريث،على أمل الحصول على دعم البلدان العربية.

وفي غضون ذلك عقد جمال عبد الناصر في القاهرة أول مؤتمر قمة عربية في كانون الثاني/يناير من العام 1964، ومن ضمن ما تمخضت عنه القمة قرارا ينص على " دعم الكيان الفلسطيني" على الصعيدين السياسي والعسكري من خلال إنشاء مؤسستين هما: منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني.وتم اختيار أحمد الشقيري ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية لمتابعة القرار،ودعا الشقيري إلى عقد المؤتمر التأسيسي لمنظمة التحرير ـ المجلس الوطني الفلسطيني- من 28 أيار /مايو إلى 2 حزيران /يونيو 1964 في القدس، التي كانت خاضعة للسيادة الأردنية منذ جرى ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية في العام 1949.

حضر ياسر عرفات وخالد الحسن المؤتمر كممثلين عن الفلسطينيين في الكويت وكمال عدوان ممثلا للفلسطينيين في قطر، وأحمد أبو ستة ممثلا للفلسطينيين في القاهرة.. وخليل الوزير ممثلا للفلسطينيين في الجزائر.وخرج المؤتمر بوثيقة مهمة بالنسبة للرأي العام الفلسطيني هي: الـميثاق القومي الفلسطيني الذي عدله الفدائيون في العام 1968 وأصبح يدعى:الميثاق الوطني الفلسطيني


الدخول إلى منظمة التحرير الفلسطينية




الانطلاقة

بعد دخول المشروع الإسرائيلي لتحويل مياه نهر الأردن حيز التنفيذ في صيف 1964 حاول عرفات تسريع البدء في الكفاح الـمسلح. اتصل بالجزائريين، الذين وعدوه بتدريب مقاتليه، وبالصينيين، الذين وعدوه بالأسلحة. ثم اتجه نحو العبثيين السوريين، وفتحت دمشق أبوابها لعرفات و"فتح"لتصبح سورية البلد الثاني الذي يستقبل مكتبا لـ"فتح"بعد الجزائر. وتصدرت مسألة التزود بالسلاح اهتمامات ياسر عرفات في هذه المرحلة.

واعتقل عرفات في سورية إثناء قيامه بنقل أصابع ديناميت من لبنان إلى الأردن. وتدخل رجل الارتباط بين " فتح" والسلطات السورية وهو العقيد أحمد السويداني، رئيس الاستخبارات العسكرية السورية"المؤيد المتحمس للعمليات الفدائية" للإفراج عن عرفات،وكان هذا الضابط أقام اتصالا دائما بعرفات، الـمقيم في بيروت آنذاك في معظم الأحيان .

كما أقامت" فتح" سرا عددا من وحدات تصنيع القنابل الصغيرة في الضفة الغربية .

وفي نهاية آب 1964، اجتمع الـمجلس العسكري لـ "فتح" برئاسة عرفات للبحث في انطلاق العمل العسكري ، ولم يتمكن عرفات من إقناع الحاضرين بوجوب بدء الكفاح الـمسلح بأسرع وقت ممكن.و لم يحسم الأمر أيضا في اجتماع للجنة المركزية لـ"فتح" عقد في شهر تشرين الثاني /نوفمبر من نفس السنة . ولكن في اجتماع لقادة الحركة عقد في عمان في نفس الشهر"تشرين الثاني /نوفمبر" تم التوافق على بدء الكفاح المسلح بأسرع وقت ، وفي نهاية كلمته أمام الاجتماع أطلق ياسر عبارته الشهيرة " وإنها لثورة حتى النصر".وتم تحديد الساعة الحادية عشرة مساء يوم 31كانون الأول /ديسمبر 1964 موعدا للعملية العسكرية الأولى "عملية عيلبون "، وكتب عرفات وخليل الوزير بلاغ العملية ووزعاه على صناديق بريد الصحف والمؤسسات الإعلامية والأحزاب في بيروت.وحمل البيان توقيع جهة غير معروفة حينها"العاصفة"وهي الجناح المسلح لحركة التحرير الوطني الفلسطيني

واعتمدت الثورة الفلسطينية بعد ذلك تاريخ الأول من كانون الثاني /يناير من كل عام للاحتفال بانطلاق الكفاح المسلح لتحرير فلسطين .

وتواصلت العمليات الفدائية بعد ذلك ،وعندما ضغطت مشكلة تأمين الموارد المالية على "فتح" قام ياسر عرفات بتصفية أعماله في الكويت للمساعدة في تمويل الحركة ، وانتخب قائدا عسكريا للحركة بعد أن اضطر أبو يوسف النجار إلى ترك موقعه ليعمل من أجل تامين نفقات أسرته الكثيرة العدد.

وتعززت علاقات عرفات خلال العامين 1965ـ1966 مع القيادة السورية، وعندما وقع انقلاب الراديكاليين البعثتين في دمشق في شباط/فبراير 1966 زادت متانة العلاقات بين السلطات السورية و" فتح "، وقدم حافظ الأسد الذي كان قائدا للقوات الجوية حينها دعما عسكريا كبيرا للحركة "تسليحا وتدريبا"، وكذلك إعلاميا حيث أصبحت إذاعة فلسطين من دمشق هي التي تبث بلاغات وبيانات العاصفة، و كان ياسر عرفات هو الذي يحملها مباشرة إلى المسئول عن الإذاعة. ولكن شهر العسل لم يدم طويلا بين الجانبين. فقد كان السوريون يرفضون أن يقوم الفدائيون بأي نشاط دون موافقتهم، وهذا يتعارض مع النزعة الاستقلالية التي كانت "فتح" تصر عليها. وهكذا اعتقل ياسر عرفات لأيام لأن دمشق اشتبهت في اشتراكه بعملية تخريب خط الأنابيب الذي ينقل النفط من السعودية عبر سورية والأردن. ثم اعتقل عرفات وخليل الوزير " أبو جهاد" وعشرة آخرين من مناضلي "فتح" بعد مقتل يوسف عرابي البعثي الفلسطيني والذي كان ضابطا في الجيش السوري .

وكبادرة حسن نية تجاه دمشق قررت "فتح" تعليق نشاط الذين اعتقلوا. لكن ياسر سرعان ما أقنع قيادة الحركة باستئناف نشاطه للقيام بعملية فدائية ضد إسرائيل. غير أنه اعتقل مع مجموعته على يد قوات الأمن اللبنانية لمدة ثلاثة أسابيع .

وتصاعدت وتيرة العمليات الفدائية في العام 1966 خاصة تلك التي تنطلق من أراضي الضفة الغربية التي كانت خاضعة للسيادة الأردنية .ومع تحسن العلاقات بين مصر وسورية استفادت "فتح" من ذلك وأصبحت إذاعة القاهرة وإذاعة صوت العرب تبثان بلاغات "لعاصفة"إضافة إلى إذاعة دمشق .


مسلحون من حركة فتح




النكسة

عند وقوع العدوان الإسرائيلي على الدول العربية في الخامس من حزيران/يونيو 1967 عقد ياسر اجتماعا للقيادة العسكرية الفلسطينية وتقرر فيه المشاركة في الحرب، وتوجهت وحدات من الفدائيين إلى هضبة الجولان.

و عندما سمع عبر الإذاعة صوت جمال عبد الناصر معلنا الهزيمة والنكسة واستقالته في اليوم السادس للحرب ، قال عرفات " كأن صاعقة ضربتني".ولكنه لم يتأخر عن التحرك لمواجهة الوضع الجديد مع سقوط بقية فلسطين" الضفة الغربية وقطاع غزة " وسيناء والجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي .

وقررت قيادة "فتح" بضغط من عرفات و"أبو جهاد" استئناف الكفاح المسلح ،وتقرر أيضا نقل مقر قيادة الفدائيين إلى الأرض المحتلة .


النكسة عام 67




وفعلا دخل عرفات إلى الأرض المحتلة في تموز/يوليو 1967 عبر نهر الأردن بهدف تقييم الأوضاع والإشراف على سير العمليات. ونفذت العملية الفدائية الأولى بعد الحرب يوم 31آب/أغسطس 1967 . واتجه عرفات أولاً مع ثلاثة ضباط نحو جنين، شمال الضفة الغربية ثم التجأ إلى كهف يقع في محيط بلدتي طوباس وقباطية، وأقام فيه أول مركز للقيادة، ثم توجه بعد ذلك إلى منطقة طولكرم، وأقام في مكان قريب من دير الغصون.راح ينظم خلايا من الـمقاتلين في كل مكان يحل فيه، ويرسل أكثرهم براعة في دورة تدريبية مكثفة في سورية، التي كان التعاون معها في هذا الـميدان وثيقاً. وفي نابلس، شمالا، أنشأ مركز نشاطات لـ "فتح". واكتشفت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية مخبأه و اقتحم جيش الاحتلال فجأة الشقة التي كان يقيم فيها، لكنه كان غادرها قبل ذلك بوقت قليل.توجه عرفات من نابلس إلى رام الله وأقام في البيت رقم 6 في شارع الإخوة قرب مطعم نعوم الشهير وقتها. وتركها قبل وقت قليل أيضا من اقتحام جنود جيش الاحتلال لها حيث اعتقلوا حينها فيصل الحسيني الذي كان قادما للقاء عرفات.وانتقل ياسر عرفات ليقيم في بيت رقم 4 في شارع "سانت مارك" في القدس. وظلت قوات الاحتلال تطارده،فاقتحمت البيت رقم 4 لكنها لم تعثر إلا على أسلحة وخمسة مقاتلين . كان ياسر عرفات قد غادر إلى بيت لحم حيث كان على موعد مع كوادر من "فتح". وهنا أيضا في بيت لحم أفلت من الاعتقال. وتوجه عرفات خلا ل تواجده في الأرض المحتلة إلى الخليل ووصل يافا أيضا.

قرر عرفات مغادرة المنطقة بعد تزايد حملات الاعتقال وملاحقة قوات الاحتلال له. وتوجه إلى الأردن حيث أقامت"فتح" بعد حرب حزيران /يونيو 1967قواعد لها خاصة في منطقة الأغوار الملاصقة لنهر الأردن.


عرفات في معركة الكرامة




إلى منظمة التحرير

بعد هزيمة 1967 تزايدت الضغوط على رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أحمد الشقيري الذي قدم استقالته في نهاية كانون الأول/ديسمبر1967 . وانتخب خصمه الوطني اليساري المحامي يحيى حمودة خلفا له .

في تموز/يوليو 1968، عقد الـمجلس الوطني الفلسطيني دورته الرابعة - الأولى بعد حرب حزيران/يونيو 1967- في القاهرة، فاكتسح ممثلو المنظمات الفدائية معظم مقاعده : ثمانية وستون من النواب الـمئة ينتمون إلى "حملة البنادق"،و حظي الاتجاه الثوري النقي الـمعادي لأية تسوية سلـمية بدعم جيل الشباب الذي تسلـم دفة القيادة. وانتهز "الـمقاتلون " - ومنهم عرفات- الفرصة لإدخال تعديلات تنسجم مع هذا الاتجاه ولتغيير اسم الـميثاق، أي صيغة الشقيري، من "الميثاق القومي الفلسطيني "، إلى "الميثاق الوطني الفلسطيني ".

وفي تموز/يوليو من نفس السنة 1968 زار ياسر عرفات موسكو ضمن وفد مصري برئاسة جمال عبد الناصر ، وتمكن من الحصول على مساعدة عسكرية سوفيتية بقيمة نصف مليون دولار.

ومع تصاعد نفوذ ونجم ياسر عرفات بالتوازي مع تصاعد شعبية ومكانة حركة "فتح"و الفدائيين والكفاح المسلح، كان من البديهي أن يتم ترشيحه في الـمجلس الوطني الفلسطيني الخامس (1-4 شباط/فبراير 1969) رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير،وكان هو الـمرشح الوحيد للمنصب. وأكد عرفات في خطابه أمام هذه الدورة للمجلس أن الشعب الفلسطيني يتطلع إلى إقامة مجتمع ديمقراطي وحر لكل الفلسطينيين، سواء أكانوا مسلـمين أو مسيحيين أو يهودا،وأن إقامة هذه الدولة هو الهدف الاستراتيجي لـمنظمة التحرير الفلسطينية .

في نهاية 1969، نشرت مجلة "تايم" الأميركية صورته على الغلاف، ومنحته لقب "رجل العام ". أصبح هذا " الجيفارا" الجديد "ياسر عرفات بكوفيته الشهيرة" بطلا في نظر شعوب ومناصري قضايا العالم الثالث، واليسار، والثوريين في أوروبا وباقي أنحاء العالم .

وفي القمة العربية الخامسة التي عقدت في الرباط"21-23كانون الأول/ديسمبر 1969 تكرست مكانة عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية على الساحة العربية والدولية، واحتفت به القمة احتفاءها بالأبطال، استقبله رئيسها العاهل المغربي الملك الحسن الثاني في المطار وكرمه كما يكرم زعماء الدول، واستقبلته الجماهير في الشوارع بحفاوة بالغة، ولأول مرة وضع مقعد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في الصف الأول على قدم المساواة مع رؤساء وملوك الدول العربية الأخرى، ومنحت المنظمة حق التصويت في القمة.


الانطلاقة المسلحة




ذكريات سوداء

كان عرفات حريصا على توجيه السلاح الفلسطيني ضد الاحتلال والعدو الإسرائيلي فقط ،وكان يحرص على الحصول على الدعم العربي لنضال الفدائيين وعدم التصادم مع السلطات في الدول التي تنطلق منها العمليات: الأردن وسورية ولبنان. ولكن على الأرض كانت تحدث ممارسات وصدامات على عكس رغبة عرفات وخلافا لقرار وشعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، خاصة من قبل تنظيمات أخرى غير"فتح" أو من قلة من عناصر"فتح"أو من جانب المخابرات الأردنية أو من عناصر عميلة نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في دسها بين صفوف المقاتلين الفلسطينيين، فتصاعد التوتر إلى درجة كبيرة، وتكررت الصدامات بين مسلحين فلسطينيين وقوات الجيش الأردني ،وتدهور الموقف كثيرا في شباط /فبراير1970ثم في حزيران/يونيو من نفس السنة حين أسفرت المداهمات التي نفذها الجيش الأردني في المخيمات خاصة مخيم الوحدات عن سقوط مئات القتلى .وفي آب/أغسطس 1970اشتبك الفدائيون في معارك دموية مع الجيش الأردني.وفي 6 أيلول/سبتمبر اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش ثلاث طائرات تملكها شركات غربية ونسفتها بعد إطلاق ركابها في مدرج قرب مدينة الزرقاء في الأردن. فغضب عرفات وقرر تعليق عضوية الجبهة في اللجنة المركزية للمقاومة الفلسطينية لكن هذا الإجراء لم يوقف التدهور. ومع تشكيل الملك حسين يوم 16أيلول/سبتمبر حكومة عسكرية برئاسة الفريق محمد داوود شعر عرفات بحجم الكارثة المنتظرة وطلب تدخل القادة العرب لوقف خطة تصفية المقاومة الفلسطينية. لكن الوقت كان قد فات. ففي اليوم التالي 17 أيلول/سبتمبر 1970 بدأ الجيش الأردني هجوما واسعا على مواقع المقاتلين الفلسطينيين واقتحم الجنود مقر قيادة " فتح "في جبل الحسين بعمان، وكان عرفات في غرفة العمليات في موقع قريب يحاول الاتصال بالملك لوقف القتال، ولكن دون جدوى.

وجد عرفات أن الاتصال بجمال عبد الناصر كان أسهل من الاتصال بالملك حسين ، فطلب من الرئيس المصري التدخل لوقف المعارك وإراقة الدماء. واشتد الموقف صعوبة وأصبح الخطر يتهدد حياة ياسر عرفات شخصيا، فتحصن عرفات في بيت في جبل اللويبدة ونجا من الموت هناك حيث غادر قبل لحظات من قصف مدفعي أردني للبيت، ثم نجا مرة أخرى حين سقطت قذيفة على الملجأ الذي كان يتحصن فيه مع خليل الوزير ونايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وتواصلت المجازر وسقط أكثر من 3500شهيد وآلاف الجرحى والأسرى .وعقدت قمة عربية استثنائية يوم 21أيلول/سبتمبرفي القاهرة ، وأرسلت القمة ثلاثة مبعوثين إلى الأردن هم الرئيس السوداني جعفر النميري ورئيس الوزراء التونسي الباهي الأدغم ووزير الدفاع الكويتي سعد العبد الله .وتمكنوا بعد صعوبات بالغة من الاجتماع مع ياسر عرفات في السفارة المصرية بعمان.وفي يوم الجمعة 25أيلول أعلنت الإذاعة الأردنية أن عرفات والنميري وحسين اتفقوا على وقف النار.ونجح عرفات في الإفلات من عيون أجهزة الأمن الأردنية التي كانت تترصده،و تعذر عليها التعرف عليه وهو يرتدي الثياب الخليجية التي زوده بها الشيخ سعد العبد الله، وسافر عرفات مع الوفد الثلاثي من مطار عمان إلى القاهرة ليلحق بهم بعد ذلك الملك حسين حين علم بمغادرة عرفات ووصوله القاهرة.

وقع عرفات مع الملك حسين بإشراف 8 دول عربية اتفاق وقف النار يوم 27أيلول/سبتمبر. وفي اليوم التالي وصل ياسر عرفات إلى دمشق حيث سمع نبأ وفاة جمال عبد الناصر الذي كان قد وقف بقوة معه ومع الثورة الفلسطينية خاصة في الأيام الأخيرة. انهار عرفات وأجهش بالبكاء.

وبغياب عبد الناصر زادت صعوبات مهمة ياسر عرفات في ضبط تطورات العلاقة مع السلطات الأردنية، وتواصل تفاقم الأمور إلى أن أكمل الجيش الأردني تدمير القواعد الأخيرة للفدائيين في في قطاع جرش- عجلون في تموز/ يوليو 1971 .واستشهد أكثر من ألف من الفدائيين في ذلك القطاع ، وبينهم وليد أحمد نمر المعروف بـ"أبو علي إياد "عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وأحد رفاق درب ياسر عرفات.

وصل عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وغيرهم إلى سورية ولبنان، حيث قرر عرفات مواصلة النضال وإعادة البناء رغم كارثة"أيلول الأسود" في الأردن.


عرفات وجمال عبد الناصر والملك حسين أثناء توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين المنظمة والجيش الأردني




في لبنان

كان عرفات قد نجح في العام 1968 في إقامة قواعد لحركة "فتح "في منطقة العرقوب بجنوب لبنان، وأطلقت إسرائيل على تلك المنطقة أسم " فتح لاند" (أرض فتح)، ومنها كانت تنطلق عمليات فدائية إلى فلسطين المحتلة"إسرائيل".


الانتقال إلى لبنان




وقعت مواجهات وصدامات بين الفدائيين والجيش اللبناني إلى أن وقع ياسر عرفات مع قائد الجيش اللبناني العماد إميل البستاني" اتفاقية القاهرة" يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1969 برعاية الرئيس جمال عبد الناصر. واتسمت الاتفاقية بمرونة مكنت منظمة التحرير من العمل بجنوب لبنان وبموجبها أيضا أصبحت المنظمة مسؤولة عن أمن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذين كان عددهم يزيد حينها عن 250 ألف شخص محشورين في مخيمات وظروف بائسة جدا.وبعد خروج الثورة الفلسطينية من الأردن لم يكن أمام الفدائيين إلا العمل من لبنان.وبدأ عرفات ينظم العمل العسكري فيه ويحاول تعويض ما خسره في الأردن من أسلحة ومعدات .

ونشط عرفات ورفاقه على كافة الأصعدة في لبنان حيث ترجع علاقاته فيه إلى ما قبل انطلاق الثورة الفلسطينية.

وتعززت في هذه المرحلة بين ( 1971-1973 )مكانة منظمة التحرير وزعيمها عرفات عالميا، وأخذت تمارس مسؤوليات الدولة تجاه شعبها خاصة الموجودين على الأرض اللبنانية.

أقام عرفات شبكة علاقات واسعة ومهمة مع القادة اللبنانيين ،وفي نفس الوقت كان ورفاقه يتحركون على الساحة السياسية العالمية يحشدون الدعم والتأييد لقضية الشعب الفلسطيني ولنضاله العادل ضد الاحتلال.

في 13نيسان /أبريل 1973 حاولت إسرائيل اغتيال ياسر عرفات في بيروت حيث قامت مجموعة إسرائيلية ضمت بين أفرادها "ايهود باراك"ـ الذي أصبح لاحقا رئيسا لوزراء إسرائيل ـ باغتيال ثلاثة من كبار مساعديه القادة: كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر.وقال مسؤولون فلسطينيون أن"معجزة سمحت لعرفات بالبقاء بعيدا" .كان عرفات لا يمضي أكثر من بضع ساعات تحت سقف واحد ، وكانت تحركاته تتم بغموض وبتكتم .


عرفات في لبنان في صيف 1973






نجاحات

شارك عرفات بصفته رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة في مؤتمر القمة الرابع لحركة عدم الانحياز الذي عقد في الخامس من أيلول/ سبتمبر 1973 في الجزائر، حيث قرر المؤتمر الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني . ولاقت دعوة ياسر عرفات ـ خلال المؤتمرـ الدول الأفريقية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل استجابة واسعة .

وفي مؤتمر القمة العربية الخامس في الجزائر (26-28تشرين الأول /أكتوبر 1973) نجح عرفات في استصدار قرار ينص على أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني رغم امتناع الأردن حينها.

وبعد حرب تشرين الأول /أكتوبر 1973 وافق ياسر عرفات على عرض من الرئيس المصري أنور السادات للمشاركة في حضور مفاوضات جنيف المقرر عقدها في كانون الأول/ديسمبر من تلك السنة شريطة أن يتم فيها مناقشة الحقوق الفلسطينية ، لكن السادات لم يعده بذلك ،فتغيبت منظمة التحرير "م.ت.ف" عن مفاوضات جنيف .

وفي شباط/فبراير 1974 حظي ياسر عرفات والوفد الفلسطيني المرافق له باستقبال الأبطال في لاهور بباكستان حيث شارك في مؤتمر القمة الإسلامي، والذي أعلن أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وفي نفس السنة أكدت القمة العربية السادسة في الرباط في 28 تشرين الأول/أكتوبر اعترافها بمنظمة التحرير ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني . وأضافت كلمة الشرعي لتصبح الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده. و وافق الملك حسين على هذا الاعتراف. وأدخل عرفات على البيان الختامي للقمة العربية بندا يشير إلى انه: "يمكن للشعب الفلسطيني أن يقيم سلطته الوطنية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية على كل جزء يتم تحريره من الأرض" .

حرص عرفات في هذه المرحلة على تعزيز العلاقات الفلسطينية أيضا مع كل من يجد لديه أذنا صاغية. وبابا مفتوحا أو شبه مفتوح.يتحرك بنفسه ويرسل مبعوثيه إلى كل بقاع الأرض.

صار يقضي وقتا طويلا في رحلاته إلى العواصم المؤثرة في العالم . عمل على توثيق العلاقات مع الاتحاد السوفييتي والصين والهند وباكستان واندونيسيا ودول إفريقيا وأميركا اللاتينية .وبنى تحالفات مع كثير منها، وربطته صداقات شخصية بكثير من قادتها ومنهم انديرا غاندي رئيسة وزراء الهند وذو الفقار علي بوتو رئيس وزراء باكستان والرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو .

وتوج عرفات النجاحات السياسية للثورة الفلسطينية يوم 13تشرين الثاني /نوفمبر 1974 حين ألقى خطابا تاريخيا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقال عبارته الشهيرة في ختام الخطاب"جئت حاملا غصن الزيتون في يد ، وفي الأخرى بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي ..الحرب بدأت من فلسطين،ومن فلسطين سيولد السلام ".

وأطلق المراقبون الأميركيون على ذلك اليوم اسم "يوم عرفات" لأنه نجح خلال ساعات في تركيز الاهتمام على مشكلة ظل الأميركيون يجهلونها أو يتجاهلها قادتهم عقودا عديدة، كما عرف كيف يكسب تأييد جزء كبير جدا من الرأي العام الدولي ، وكان عرفات أول زعيم لا يمثل دولة يعطى حق إلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وبعد الخطاب اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية الساحقة، بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وأعطت منظمة التحرير وضع المراقب الدائم في الأمم المتحدة ، ودعت الدول والمنظمات الدولية إلى دعم الشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل استعادة حقوقه. وسجل عرفات نقطة أخرى في العام الذي تلاه في 10تشرين الثاني / نوفمبر 1975حين تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا ينص على أن " الصهيوينة هي شكل من أشكال العنصرية".


عرفات يلقي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 1974


في لبنان

كان عرفات يسجل بقيادته للشعب الفلسطيني النجاحات والانجازات السياسية على المستوى الدولي وداخل الأرض المحتلة، وكان يسعى في ذات الوقت لتأمين بيئة إيجابية داخل لبنان،حرص عرفات كثيرا على فتح قنوات اتصال وعلاقات تعاون مع الجميع في لبنان، لكن الأمور لم تكن تتطور وفقا لرغبته.

حاول عرفات ورفاقه بناء مؤسسات منظمة التحرير بما يخدم الشعب الفلسطيني في كافة المجالات إضافة إلى الكفاح لاسترداد حقوقه المشروعة، لكن بعض الجهات اليمينية في لبنان لم يرق لها تعاظم دور ومكانة المنظمة، وصار البعض يحرض عليها متهما إياها بإقامة دولة داخل الدولة، ووقعت مجزرة رهيبة بسبب هذا التحريض يوم 13 أيار/ مايو 1973 حين قصفت طائرات الجيش اللبناني مخيم برج البراجنة في بيروت ما أسفر عن استشهاد نحو 100 شخص. وفي 13نيسان /أبريل 1975 تعرضت حافلة فلسطينية إلى هجوم بالأسلحة الرشاشة لدى مرورها في حي عين الرمانة الماروني في بيروت الشرقية،وقتل المهاجمون جميع من فيها وكانوا سبعة وثلاثين شخصا .

كانت هذه الحادثة بمثابة شرارة اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. وتكررت المجازر بحق الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين من اليساريين والمسلمين السنة والشيعة.ولم يكن أمام عرفات والفلسطينيين أي خيار سوى البقاء في لبنان وتوطيد التحالف مع المعسكر اللبناني المناصر للقضية الفلسطينية والدفاع عن أنفسهم .

وخلال الشهور الأولى من 1976 كانت الغلبة للتحالف الفلسطيني ـ التقدمي اللبناني، فاستنجدت القيادة المارونية بسورية وإسرائيل. وتدخلت القوات السورية الموجودة في لبنان في 30أيار/مايو 1976 لفك الحصار عن زحلة، ووجه الرئيس السوري حافظ الأسد إنذارا إلى ياسر عرفات لإلقاء السلاح، الأمر الذي رفضه الفلسطينيون ومن معهم من اللبنانيين، فاستخدم الجيش السوري كافة أسلحته الجوية والبرية ليحتل الجزء الأكبر من لبنان دون أن يصل إلى ما عرف بـ" الخط الأحمر" في الجنوب قرب حدود إسرائيل لئلا يصطدم بها. وفي آب/أغسطس 1976 تعرض الفلسطينيون لمجزرة جديدة في مخيم تل الزعتر حيث دخلت القوات الكتائبية المخيم في اليوم التالي لتوقيع اتفاق إخلاء سكانه، ارتكبوا مجزرة فظيعة أسفرت عن استشهاد أكثر من ألفين من سكان المخيم الذي كانت تطوقه القوات السورية والتي كانت أمطرته قصفا من البر والجو .

شعر عرفات بصدمة بالغة إزاء هذه المجزرة البشعة واعتبر أن العالم العربي"في أدنى درجات انحطاطه التاريخي".

تواصلت الهجمات الكتائبية والسورية ملحقة خسائر فادحة في صفوف المنظمة وحلفائها، فناشد ياسر عرفات ولي العهد السعودي آنذاك فهد بن عبد العزيز التدخل لإيقاف الهجمة السورية،وعقدت قمة عربية مصغرة في الرياض أسفرت عن إصدار الأسد أوامره لجيشه بإنهاء العمليات العسكرية.

كانت سنة 1976 سنة صعبة على عرفات والفلسطينيين في لبنان، لكن عرفات كان في ذلك الوقت ينجح في تعزيز مكانة المنظمة داخل الأرض المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ونجحت قوائم منظمة التحرير في اكتساح الانتخابات البلدية في الضفة، كما عزز عرفات العلاقات مع فلسطينيي الداخل"عرب 48" وأعلن شهداء يوم الأرض في 30 آذار/مارس شهداء للثورة الفلسطينية، وقرر اعتبار ذلك اليوم مناسبة وطنية يحتفل بها في كل عام. وكذلك دعم عرفات الاتصالات الفلسطينية مع الإسرائيليين التقدميين الذين يعترفون بالحقوق الفلسطينية أو من عرفوا بأنهم من معسكر السلام الإسرائيلي الرافض لاستمرار احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة.

وفي العام 1977 خسر ياسر عرفات حليفا مهما على الساحة اللبنانية هو كمال جنبلاط الذي اغتيل في كمين لجهات سورية يوم 16 آذار/مارس من تلك السنة. وفي نفس السنة أيضا حدثت مفاجأة الرئيس المصري محمد أنور السادات الذي أعلن وبحضور عرفات أمام مجلس الشعب المصري في القاهرة استعداده لزيارة القدس المحتلة ومخاطبة الكنيست الإسرائيلي، وبعد ذلك حدثت زيارة السادات لإسرائيل يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر، وعندها شعر عرفات أن "الشعب الفلسطيني تلقى طعنة في الظهر. هاهو زعيم أكبر دولة عربية يتخلى عن قضية فلسطين ويختار معسكر العدو".

وفي هذه المرحلة تعززت علاقات عرفات و"المنظمة" مع الاتحاد السوفييتي سياسيا وعسكريا، وتلقى الفلسطينيون منه أسلحة ومعدات متطورة بينها صواريخ مضادة للطائرات وللدبابات .


عرفات في استعراض عسكري في لبنان عام 1977




الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان

ومع تغير الصورة في العالم العربي بعد زيارة السادات للقدس المحتلة وقيام جبهة الصمود والتصدي العربية بمشاركة منظمة التحرير، ازدادت شراسة الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين في لبنان، وبعد عملية الشاطئ الفدائية" عملية الشهيد كمال عدوان" التي قادتها دلال المغربي يوم 11آذار/مارس 1978 وأسفرت عن مقتل 34 إسرائيليا واستشهاد 9 فدائيين بينهم دلال المغربي، شن الجيش الإسرائيلي في 14 آذار/مارس 1978عملية عسكرية كبيرة ضد الفلسطينيين، وبدأ اجتياحا واسعا لجنوب لبنان فاضطر ياسر عرفات إلى النزول إلى غرفة عملياته في مخيم صبرا، ولم يهدأ باله إلا عندما تأكد أن الجزء الأكبر من قواته قد نجا و تمكن من الانسحاب نحو الشمال.


دبابات العدو أثناء الاجتياح عام 1978


لمواجهة آثار ونتائج توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في 17أيلول/سبتمبر 1978 ، ومعاهدة السلام بينهما يوم 26آذار/مارس1979 تحرك عرفات بنشاط وقوة على عدة جبهات، أخذ يعزز العلاقات مع الحلفاء والأنصار في الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي ودول أميركا للاتينية والدول الإسلامية ودول عدم الانحياز، وفي نفس الوقت أخذ يسعى لفتح نوافذ وأبواب الغرب أمام منظمة التحرير، فالتقى في تموز/يوليو 1979بالمستشار النمساوي برونو كرايسكي.

وفي نفس السنة اعترف رئيس الوزراء اليوناني أندرياس باباندريو بمنظمة التحرير الفلسطينية، واعترفت اسبانيا ـ بعد زيارة عرفات لها ـ بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني..وهكذا سجل عرفات سلسلة من النجاحات الدبلوماسية والسياسية .

وفي هذه الفترة أيضا كسب عرفات حليفا مهما "إيران" فبعد سقوط شاه إيران محمد رضا بهلوي الحليف الأكبر لإسرائيل وللولايات المتحدة في المنطقة، ونجاح الثورة الإسلامية الإيرانية في شباط/فبراير 1979، كان عرفات أول زعيم يزور طهران بعد سيطرة رجال الثورة عليها، وحظي فيها باستقبال الأبطال، واحتفى الإيرانيون به رسميا وشعبيا بحفاوة بالغة، وحولوا سفارة إسرائيل في طهران إلى سفارة لمنظمة التحرير. كان عرفات يعرف الكثيرين من قادة الثورة الإيرانية وتربطه بهم صداقات ومنهم زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخميني، ومنهم أيضا من تدرب في قواعد الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان


عرفات مع كورت فالدهاي الأمين العام للأمم المتحدة عام 1977










حصار وانتصار

أدى تنامي مكانة منظمة التحرير والانجازات السياسية التي كان عرفات يحققها على مستوى العالم إلى إثارة حنق وانزعاج القيادة الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء مناحيم بيغن فزادت عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين في لبنان وأخذت تخطط لضرب منظمة التحرير وقيادتها.

استشعر عرفات في وقت مبكر الخطر الكبير القادم، وكان منذ خريف 1980 يحذر ويعلن ضرورة الاستعداد للحرب، لأنه شعر بأن اليمين الحاكم في إسرائيل يستعد و يتحين الفرص للانقضاض على الثورة الفلسطينية .وكان عرفات يعطي أوامره للقوات الفلسطينية ـ في مرات كثيرة ـ بالامتناع عن الرد على الاعتداءات الإسرائيلية خشية التذرع بالردور الفلسطينية لتبريرشن عدوان كبير .

وشعر عرفات بالقلق الكبير مع اندلاع الحرب بين حليفيه القويين العراق وإيران في العام 1980، وبذل جهود وساطة كبيرة في هذا المجال لكن دون جدوى. وتصاعدت مخاوفه من استغلال إسرائيل للوضع الإقليمي مع خروج مصر من دائرة المواجهة وانشغال العراق وإيران بحربهما، وتأكدت أحاسيسه حين فشل العرب في قمة فاس بالمغرب في الاتفاق على مشروع الأمير فهد "ولي العهد السعودي" للحل والذي يشيرـ إلى جانب الإقرار بكافة الحقوق الفلسطينيةـ إلى "الاعتراف بحق كل الدول في المنطقة أن تعيش بسلام، وعلق عرفات بعد الإخفاق في فاس بقوله "سوف ندفع من دمنا ثمن هذا اللا قرار. وسوف تكون فاس هي الفأس التي تهوي على رؤوسنا".




عرفات و القادة العرب في قمة فاس بالمغرب




حاول الإسرائيليون اغتيال عرفات في تموز/يوليو 1981 حين قصفوا البناية التي تضم مقر قيادته في الفاكهاني ببيروت ودمروها كليا ليدفنوا تحت أنقاضها أكثر من مئة شهيد .

وبعد تصاعد الاشتباكات واشتداد القصف الفلسطيني لبلدات شمال إسرائيل، وافقت إسرائيل على اتفاق لوقف إطلاق النار مع منظمة التحرير تم التوصل إليه برعاية المبعوث الأميركي فيليب حبيب.

فرض عرفات على قواته تقيدا شديدا بوقف النار، وكثف عمليات التدريب والتسليح، وأخذ بيغن وزير حرب ارائيل شارون يعدان للضربة "القاصمة" التي ستقضي على منظمة التحرير وعلى ياسر عرفات وفقا لما يخططان .

ولم تتأخر إسرائيل عن استغلال قيام منظمة "أبو نضال" المنشقة عن الثورة الفلسطينية بإطلاق النار على السفير الإسرائيلي في لندن "شلومو أرغوف" وإصابته في رأسه إصابة خطيرة، فبدأ القصف الإسرائيلي العنيف ظهر يوم الجمعة الرابع من حزيران /يونيو 1982 ليطال مواقع عديدة منها المدينة الرياضية في بيروت والمخيمات الفلسطينية. ورد الفلسطينيون بقصف بلدات شمال إسرائيل. لتجد الحكومة الإسرائيلية الذريعة متهمة الفلسطينيين بانتهاك اتفاق وقف النار، ولتبدأ في اليوم التالي الخامس من حزيران /يونيو حربها الواسعة على لبنان، والهدف الحقيقي هو القضاء على الثورة الفلسطينية وقائدها ياسر عرفات الذي كان في جدة بالمملكة العربية السعودية، وتوجه فور سماع أنباء القصف الإسرائيلي يوم 4حزيران /يونيو إلى دمشق، ومنها إلى بيروت ليقود معركة التصدي للعدوان الجديد. وأذهله حجم الإضرار والدمار الذي خلفه القصف، وأدرك أنه أمام حرب واسعة فدعا المقاتلين إلى القتال بكل قوة.


عرفات أثناء الحصار عام 1982




ازدادت وحشية القصف الجوي والبري والبحري الإسرائيلي لكافة المناطق التي يتواجد فيها الفلسطينيون، ودفعت إسرائيل بقوات برية ودبابات ومصفحات بأعداد كبيرة من جنوب لبنان نحو صور وصيدا ومخيمات عين الحلوة والرشيدية. تواصل العدوان الواسع ليصل يوم 13حزيران /يونيو إلى حدود بيروت الغربية، وأصبح ياسر عرفات محاصرا مع قواته في جيب لا تتعدى مساحته 25كيلومترا مربعا. صمد عرفات ومعه المقاومون الفلسطينيون 88 يوما تحت الحصار والقصف الوحشي العنيف، وطوال هذا الوقت كانت إسرائيل تلاحق ياسر عرفات لاغتياله، ولكن رغم وجوده في منطقة محاصرة واضطراره لعقد اجتماعات عديدة وظهوره مرات كثيرة بين المقاتلين أو في زيارة الجرحى. رغم كل ذلك نجا عرفات من عدة ضربات مباشرة طالت أماكن كان فيها قبل لحظات أو كان يفترض أن يصل إليها خلال لحظات. كان يتنقل كثيرا، ويبدل أماكن نومه وإقامته، ولا يقضي في مكان واحد سوى ساعات محدودة. كان عرفات مصمما على مواصلة الصمود والقتال. رفض عروضا عديدة للنجاة بنفسه عن طريق اللجوء للسفارات في بيروت، ورفض دعوات الجنرال ارئيل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي للاستسلام، وكان يردد بين رفاقه: "هبت رياح الجنة، لقد دعوت الله أن يستجيب لطلبي أن أموت شهيدا ."


عرفات مع المقاتلين أثناء حصار عام 1982




قتلت إسرائيل آلاف المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، وأصيب عشرات الآلاف منهم. دمرت الأحياء السكنية والمخيمات الفلسطينية. زاد الوضع بؤسا واستمر الصمود، ولكن عرفات كان غاضبا جدا إزاء ضعف ردود الفعل العربية والدولية على العدوان والجرائم التي ترتكبها إسرائيل. كان خروج الفدائيين من بيروت ولبنان وتوزيعهم على تسع دول هو الشرط الذي وضعته إسرائيل عبر الوسيط الأميركي فيليب حبيب لوقف المجزرة في بيروت، رفض عرفات الشرط، لكن الحكومة اللبنانية وافقت يوم 18 آب /أغسطس على خطة حبيب .

وجرى حوار بين القوى الوطنية اللبنانية والقيادة الفلسطينية حول كيفية التصرف، وتم الاتفاق على القبول بخروج الفدائيين من بيروت. أبلغ ياسر عرفات الرئيس اللبناني الياس سركيس ورئيس الوزراء شفيق الوزان موافقته على خطة حبيب، وقبل أن يخرج عرفات من بيروت بأيام سأله الصحافي الإسرائيلي "أوري افنيري" :إلى أين أنت ذاهب؟ أجاب عرفات فورا وبقوة :"أنا ذاهب إلى فلسطين".

وبدأ الفدائيون مغادرة لبنان يوم 21آب/ أغسطس ببزاتهم العسكرية وبأسلحتهم الشخصية.وقبل أن يصعد ياسر عرفات إلى السفينة اليونانية "أتلانتيد" في ميناء بيروت يوم 30آب/أغسطس ليغادرها، توقف للحظات وقال بصوت عال"أيها المجد لتركع أمام بيروت".

وقال فيما بعد عن تلك اللحظات:"حين ألقيت النظرة الأخيرة على المدينة قبل أن أغادرها بكيت، كانت تلك من اللحظات النادرة في حياتي التي جرت فيها دموعي بهذه الغزارة .. إن حصار بيروت ومغادرتي لها قد فتحا جرحا عميقا في قلبي .. نظرت إلى المدينة وأنا على ظهر السفينة، وشعرت كأنني طائر مذبوح يتخبط في دمه".

وقد ودعه الشعبان الفلسطيني واللبناني بكل الحب والإجلال كما يليق به كقائد شجاع صمد وقاتل بشرف ورفض الاستسلام. وفي اليونان استقبله الشعب اليوناني وقادته يتقدمهم رئيس الوزراء أندرياس باباندريو كبطل محارب شجاع.ومكث عرفات يوما واحدا في اليونان ليغادرها في اليوم التالي إلى تونس التي وقع الاختيار عليها لتكون المقر الجديد في المنفى لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.


عرفات وقت مغادرته لبنان عام 1982




سنوات صعبة: تونس ..صبرا وشاتيلا ..الانشقاق

بدأ عرفات يتحرك وينشط سياسيا في مقره الجديد في تونس، و التي كانت أيضا المقر المؤقت لجامعة الدول العربية بعد نقله من القاهرة إثر توقيع مصر اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل. ومن تونس أخذ ياسر عرفات يعيد تنظيم جميع عناصر الثورة الفلسطينية وأجهزتها: القوات العسكرية والمؤسسات والإفراد والموارد البشرية والمالية، ومنها أخذ ينطلق في جولاته الخارجية.

وتوجه يوم السادس من أيلول/سبتمبر إلى المغرب للمشاركة في مؤتمر القمة العربية" قمة فاس الثانية".. كان الغرض من هذه القمة إظهار وحدة الصف العربي وإعداد استقبال حماسي لياسر عرفات "رمز المقاومة والصمود " كما سماه يومها العاهل المغربي الملك الحسن الثاني .وتبنت القمة مشروع الملك فهد للتسوية السلمية للنزاع العربي الإسرائيلي .

وفي يومي السادس والسابع عشر من أيلول /سبتمبر1982 ارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا على يد القوات اللبنانية الكتائبية التي قتلت نحو ألف فلسطيني. تتحدث بعض التقديرات عن مقتل ثلاثة آلاف فلسطيني في المجزرةـ ومعظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن بعلم وحماية القوات الإسرائيلية التي احتلت بيروت في ذلك الوقت. ويومها كان عرفات يزور روما فأبلغ وزير الخارجية الإيطالية أنه يحمل القوات الإيطالية والفرنسية والأميركية المسؤولية عن المجزرة لأنه سلمهم المدينة قبل انسحابه وقوات الثورة منها ولم يسلمها للجيش اللبناني، لكنهم خذلوه وتركوها، ما أتاح لشارون احتلال المدينة والسيطرة عليها وبالتالي ارتكاب المجزرة.

وأثناء وجوده في تونس كان عدد من أعضاء "فتح" يستعدون للانشقاق عن الحركة بدعم من النظام السوري، وشكلوا تجمعا أسموه "فتح الانتفاضة" برئاسة العقيد محمد سعيد موسى مراغة" أبو موسى"، فتصدى عرفات لـ "المؤامرة "وأعلن أن "المنشقين يريدون أن يسحبوا من الشعب الفلسطيني قراره الوطني المستقل بهدف السيطرة عليه وجعله خاضعا لغير الإرادة الفلسطينية"...أي لسورية .

وتصاعد التوتر والخلاف بين عرفات والنظام السوري.. وفي هذه المرحلة تم اغتيال "رئيس أركان قوات الثورة الفلسطينية " العميد سعد صايل "أبو الوليد" ـ المؤيد القوي لياسر عرفات ونهجه الاستقلالي. وذلك في كمين في سهل البقاع الخاضع لسيطرة القوات السورية في لبنان، واتهم البعض سورية بالوقوف وراء اغتياله .. فتدهورت العلاقات بين المنظمة ودمشق كثيرا. ونجا عرفات من محاولة لاغتياله في كمين نصب لموكبه على طريق حمص حيث استشهد تسعة من حرسه ومرافقيه ولم يكن هو في الموكب. وفي اليوم التالي قررت السلطات السورية طرد ياسر عرفات من سورية.

وأعلن جورج حبش ونايف حواتمة مساندتهما لعرفات، لكن ذلك لم يخفف من قرار دمشق التي عاملته كمجرم: اقتاده أحد الضباط إلى الطائرة التونسية التي كانت تنتظره في مطار دمشق. إلا أن ضربة دمشق لعرفات ارتدت عليها، فقد ضاعف القرار السوري من حجم التأييد الواسع لياسر عرفات في أوساط الرأي العام الفلسطيني والعربي، وأصدر مفتي القدس الشيخ سعد الدين العلمي فتوى تبيح قتل الأسد لقراره طرد عرفات، وحتى داخل سورية كان التأييد لعرفات جارفا وألحق القرار العار بـ"أبو موسى "وحركته الانشقاقية .. لقد اتضح أن حركة الانشقاق الداخلي كانت نزاعا سوريا فلسطينيا. وكان لهذه المحنة أن عززت مرة أخرى شرعية ياسر عرفات ولم تؤثر في صلابة موقف زعيم (م.ت.ف) : ففي اليوم التالي من طرده، سافر عرفات إلى براغ للمشاركة في مؤتمر حركة السلام العالمية، وألقى بحضور الوفد الإسرائيلي خطابا معتدلا دعا فيه إلى الحوار والسلام.

تصادم المنشقون عن فتح مع قوات الثورة ودفعوها خارج مناطق سيطرة السوريين، فتمركزت في طرابلس بشمال لبنان وبدأ القصف ضدها والحصار بدعم سوري ليبي.

تحت الحصار في طرابلس

أخذ المنشقون، تدعمهم القوات السورية الموجودة في لبنان، يدفعون قوات عرفات تدريجيا خارج المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري. وكان على القوات الموالية لعرفات بدءا من شهر آب/اغسطس1983، أن تتخذ مراكزَ لها في شمال لبنان، وتحديدا في طرابلس ومخيمي اللاجئين المجاورين وهما نهر البارد والبداوي. وحين اشتد قصف القوات السورية والمنشقة للقوات الموالية، كان على عرفات أن يهب لمساعدة مقاتليه ويشد من أزرهم، فأقدم على خطوة وصفها الشاعر محمود درويش، بأنها "فعل الشجاعة الأكثر تألقا في حياته الصاخبة": ارتدى ثيابا مدنية، وحلق لحيته، ووضع نظارة سوداء ليخفي معالم شخصيته، وحمل حقيبة صغيرة،وطار إلى مطار لارنكا في قبرص بجواز سفر مزور ..ومن هناك وصل إلى لبنان عبر البحر.لم يتوقع السوريون الذين يحاصرون طرابلس ولا الإسرائيليون الذين كانوا يفرضون حصارا بحريا مجيئه.وصل عرفات متخفيا في أجرأ عملية اختراق إلى طرابلس في 20/9/1983 ليمنع فرض المنشقين أنفسهم ممثلين شرعيين للمقاومة، وهذا ما كان.

انضم عرفات إلى رفيق دربه خليل الوزير "أبو جهاد"الذي كان في طرابلس يقود القوات الموالية للشرعية الفلسطينية،كان على رجال عرفات الخمسة آلاف أن يخوضوا قتالا ضد أكثر من عشرة آلاف من الجنود السوريين والمنشقين بقيادة أبو موسى، ومقاتلي منظمة الجبهة الشعبية ـ القيادة العامةـ بزعامة أحمد جبريل، تدعمهم نحو مئة دبابة. ظل أبو عمار يقود العمليات العسكرية من مقره في زقاق في طرابلس يبعد نحو 200 متراً عن البحر.


عرفات خليل الوزير أثناء حصار طرابلس عام 1983




وفي تشرين الثاني/نوفمبر، سقط مخيم نهر البارد ثم مخيم البداوي في أيدي المنشقين بعد معارك سقط فيها نحو 1000شهيد من العسكريين والمدنيين.

بدا أن السوريين على وشك تحقيق هدفهم : القضاء على أبو عمار. عمت الفرحة في إسرائيل حينذاك، وسرت شائعات عن مقتله وانتشرت بينهم ظاهرة "التبشير" بموت عرفات. لكن هذا الحصار لم يفت من عضد عرفات أيضا.

وفي 19 كانون الأول/ديسمبر 1983 كان الخروج الثاني من لبنان - من طرابلس هذه المرة – وغادر عرفات طرابلس على متن السفينة "أوديسيوس إيليتيس". كان يرافقه ضباطه و 4000 مقاتل، أقلتهم 5 سفن يونانية ترافقها البحرية الفرنسية. تم هذا الرحيل بوساطة فرنسية ـ سعودية وبجهود مصرية وصينية مدعومة من غالبية الدول العربية ،ومنها الكويت التي هددت سورية بوقف المساعدات الاقتصادية عنها.

جعل عرفات من معركة طرابلس، وهي فشل عسكري، نصرا سياسيا: ظل رمزا للاستقلالية الفلسطينية في مقابل أولئك "الدمى السورية"، على حد تعبيره، وازدادت شعبيته حتى في سورية نفسها ــ في مخيم اليرموك للاجئين، القريب من دمشق ــ مهمِشا بذلك المنشقين، الذين لم يتمكنوا بعد ذلك من لعب دور سياسي داخل (م.ت.ف)

وكان ياسر عرفات قد نجح خلال حصاره في طرابلس بمبادلة 6 أسرى إسرائيليين ب4500 معتقل فلسطيني، مقاتلين ومدنيين، محتجزين في جنوب لبنان وفي إسرائيل .

مصر من جديد

وبعد خروجه من طرابلس فجر عرفات مفاجأة جديدة.. وصل بدون مقدمات معلنة إلى مصر التي كانت مقاطعة عربيا، ورغم أن"فتح" اعتبرت الزيارة فيما بعد في بيان (خطأ ناجم عن سوء تقدير) إلا أن عرفات ظل يتمتع بالدعم والقوة. ثم أقر منتقدو الزيارة لاحقا بصواب قرار عرفات.


كان عرفات قد اتخذ قراره في وقت سابق إبان الحصار في طرابلس. سيذهب إلى مصر للقاء الرئيس محمد حسني مبارك، رغم تحذيرات أبو جهاد وأبو إياد، وقد اتصلا به عبر اللاسلكي ونصحاه بعدم الذهاب. ولكنه ما أن خرج من طرابلس ووصل إلى عرض البحر، حتى بدأ اتصالاته ترتيبا لزيارة مصر. وعند وصول السفينة "أوديسيوس إيليتيس" إلى بور سعيد استقبل عرفات ورجاله بتظاهرات ترحيبية من الجماهير،وكان وفد رسمي برئاسة رئيس الوزراء المصري في انتظار عرفات الذي دعاه للقاء الرئيس المصري مبارك، فقبل عرفات الدعوة واستقل طائرة مروحية ليصل القاهرة ،حيث كان العناق التاريخي بين عرفات ومبارك في 22 حزيران 1983/يونيو، وفُتحت صفحة جديدة في العلاقات الفلسطينية ــ المصرية وفي العلاقات العربية أيضا.


عرفات في السفينة التي نقلته الى مصر




اعتبر عرفات أن لا خيار أمامه: يجب أن تعود مصر إلى موقعها داخل المجموعة العربية. لا بد من الاعتراف بأن الظروف تغيرت في مصر منذ العام 1983. مطلوب الآن إستراتيجية جديدة للتصدي لمحاولات تصفية القيادة الفلسطينية الحالية، بكل ما تمثله، واستبدالها بدمى تعمل لحساب سورية .

كان عرفات يرى أنه لا يمكن لأحد أن يقبل أن تكون الحركة الوطنية الفلسطينية على عداء مع مصر ومع سورية. ففي الظروف الحالية، التي "تتكالب" فيها سورية على (م.ت.ف)، سيكون من الخطأ التاريخي عدم التوجه نحو بلاد النيل.

لم يحدث اللقاء مع مبارك انشقاقات، وظل عرفات يتمتع بالدعم الواسع فلسطينيا وعربيا .وبعد القاهرة توجه عرفات إلى اليمن فالكويت والجزائر.

وخفتت أصداء تلك الزيارة إلى القاهرة تدريجيا. وبعد سنة تذكر أبو إياد تلك الحقبة، فأعلن صواب قرار عرفات في ذلك الوقت،وقال أبو إياد في اجتماع المجلس الوطني في عمان 1984 وسط عاصفة من التصفيق: لقد تملكنا غضب شديد من هذا السلوك. ولكن أحيانا لا بد من المبادرة ودفع باب التاريخ إذا أردنا فعلا فتحه.


عرفات مع حسني مبارك عام 1983




إلى الأردن ..

في الشهور التي تلت الخروج من بيروت زار عرفات عمان مرتين واتفق مع الملك حسين على أن ملف أيلول/سبتمبر 1970 قد أغلق تماما بالنسبة للجانبين لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات الأردنية الفلسطينية.

وفي ذات الوقت كثفت دمشق مساعيها لعزل ياسر عرفات، وتعقدت أمور عقد المجلس الوطني الفلسطيني في دمشق لأن حافظ الأسد اشترط عقده بدون ياسر عرفات، فانعقد المجلس في عمان (22- 29 تشرين الثاني 1984)و ليحقق انتصار استقلالية عرفات الذي تم تجديد انتخابه رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وليجدد شرعية (م.ت.ف) ضد محاولات الهيمنة الخارجية.

وفي 11/2/1985 وقع أبو عمار مع الملك حسين (خطة العمل المشترك الأردني -الفلسطيني) التي تتضمن الموافقة على خطة لمباحثات سلام ضمن وفد مشترك، وإقامة كونفدرالية مع الأردن. ومع إثارة الخطة للأزمات في الساحة الفلسطينية والأردنية، ألغى الملك حسين الاتفاق عام 1986، ثم ألغاه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ18 عام 1987. كان الملك حسين والرئيس مبارك قد منحا في أواخر 1985عرفات مهلة ستين يوما للموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي 242، ورفضه عرفات لأن القرار لا يحتوي أية إشارة للفلسطينيين.


عرفات مع الملك حسين الأردني عام 1985




وفي شباط / فبراير 1986أغلق الملك حسين خمسة وعشرين مكتبا من مكاتب "م ت ف" الستة والعشرين في الأردن، وطرد قادة فلسطينيين كبارا، من بينهم أبو جهاد، بينما راح المنشق الفلسطيني المقرب من الأردن، عطا الله عطا الله (أبو الزعيم)، يبث اتهامات ضد ياسر عرفات بأنه "يسعى للإثراء على ظهر الشعب"، لكن تحرك "أبو الزعيم" ضد عرفات كان مكشوفا وفاشلا.





قصف المقر في تونس

في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1985 قصفت 8 طائرات إسرائيلية مقر ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير في حمام الشط بتونس فدمرته، وأسفر القصف عن استشهاد 17 شخصا وإصابة نحو 100 آخرين .

وأفلت عرفات هذه المرة أيضا من القصف، وساهم الشاعر محمود درويش في إنقاذه دون قصد فقد وصل من باريس عشية القصف برفقة أصدقاء أرادوا رؤية الرئيس، تركهم درويش في الفندق وذهب بمفرده لرؤية عرفات في بيت السفير الفلسطيني في تونس حكم بلعاوي. امتد الحديث حتى ساعة متأخرة من الليل، وفي النهاية أعلن عرفات فجأة أنه سيعود إلى حمام الشط ،لكن درويش أقنعه بالذهاب إلى بيت أبو جهاد للمبيت هناك و لمقابلة أصدقاء درويش.فنجا عرفات حيث وقع القصف قبل ربع ساعة من وصوله إلى المقر .

تمخضت هذه العملية عن نتيجة أخرى خطيرة: فقد ضرب الإسرائيليون بلدا ذا شهرة سياحية واسعة، و تشكل السياحة مصدرا مهما للعملات الصعبة فيه. وتم إرسال القوات القليلة العدد التي كانت موجودة في تونس لتلتحق بالقوات الفلسطينية الموجودة في العراق واليمن والجزائر والسودان. وخلال بضعة أشهر، انتهى الوجود العسكري الفلسطيني في تونس. وراح عرفات يمضى شهورا طويلة متنقلا بين بغداد واليمن الشمالي وتونس.


عرفات يتفقد مقر م.ت.ف بعد قصفه من قبل قات الاحتلال في حمام الشط في تونس 1985




حرب المخيمات

بعد الخروج من لبنان في 1983 تركز نشاط عرفات والمنظمة على إعادة البناء الداخلي وعلى العمل في الساحتين السياسية والدبلوماسية، لكن عرفات لم يهمل إعادة بناء القوة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لقناعته بأن "أمة تتخلى عن القوة العسكرية هي أمة محكومة بالزوال"، وكان عرفات يزور مقاتليه من وقت إلى آخر في قواعدهم الموزعة في شمال أفريقيا، والعراق، وصولا إلى اليمن الجنوبي. وكانوا يتدربون دون خشية التعرض لقصف الطيران الإسرائيلي. وفي لبنان بدأت القوى الموالية لعرفات ولمنظمة التحرير إعادة بناء قدراتها لتأمين الحماية لنحو 350 ألف فلسطيني يعيشون في المخيمات .

غير أن القوات السورية التي كانت تسيطر بفعل الأمر الواقع على الجزء الأكبر من لبنان، لم تتأخر في الرد على تلك المحاولات. قدمت الأسلحة والتدريبات لمقاتلي حركة أمل الشيعية اللبنانية.

وبدعم من القوات السورية قامت حركة أمل ـ التي يتزعمها نبيه بري ـ منذ مطلع 1986 بفرض حصار طويل وقاتل على المخيمات استمر 18 شهرا قصفت خلالها المخيمات بوحشية ومنع المحاصرون عن قاطنيها الماء والغذاء فترات طويلة. وخلفت هذه "الحرب" نحو 3000 شهيد، وآلاف الجرحى ودمارا واسعا. وأعلن في 11/9/1987 انتهاء "الحرب" باتفاق أصر عرفات على أن ينص على حق الفلسطينيين في البقاء في المخيمات في لبنان مع أسلحتهم .


صور لمجزرة صبرا وشاتيلا




قوة وضعف

كان عرفات يسعى خلال تلك المرحلة الصعبة إلى استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتمكن من عقد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر ( 20ـ25نيسان/أبريل1987) بمشاركة كل المنظمات والفصائل الرئيسية في منظمة التحرير. ودخل عرفات إلى المجلس مصحوباً بالرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، دخول الـمنتصرين بثيابه العسكرية ومسدسه على وسطه، واستقبل بالهتافات الحماسية، وهنأه الحاضرون بنجاحه في إعادة الوحدة إلى صفوف الـمقاومة الفلسطينية، وأعلن جورج حبش أن جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطينيي. التي كانت تتخذ من دمشق مقرا لها وقامت بإشراف سوري ـ قد ماتت. وتم تجديد انتخاب عرفات "بقوة" رئيسا للجنة التنفيذية للمنظمة.


عرفات والحكيم جورج حبش في الدورة ال 18 للمجلس الوطني في الجزائر




ساءت علاقات عرفات مع دمشق والقاهرة بعد اجتماعات الجزائر، وراحت إسرائيل تركز على "الخيار الأردني" مستبعدة أي دور للمنظمة في حل الصراع. واعتقد البعض أن عرفات ومنظمته يضعفان.

وفي هذه المرحلة شارك عرفات في القمة العربية التي عقدت في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 في العاصمة الأردنية عمان، وكان عرفات الزعيم العربي الوحيد الذي لم يستقبله الملك حسين في المطار كونه المستضيف للقمة. وقال عرفات بعد اختتامها موجها حديثه إلى الأردنيين "لا تهمشونا"، وذلك عندما اكتشف أن النسخة الانجليزية من البيان الختامي للقمة لم تحتوي على بند ينص على مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في أي محادثات سلام بينما كانت النسخة العربية تحتويه. كان عرفات يخشى محاولات الالتفاف على المنظمة ودورها، خاصة أن الملك حسين وقع مع وزير الخارجية الإسرائيلي في 11 نيسان/أبريل 1987اتفاقية لندن، التي تنص على تحديد الوضع القانوني للأراضي المحتلة، بإشراف دولي. واستُبعدت "م ت ف" كليا من هذا المشروع، الذي ما لبث أن أجهضه رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق شامير .







انتفاضة الحجارة واغتيال أبو جهاد

في الثامن من كانون الأول/ديسمبر1987 دهس مستوطنون إسرائيليون بسيارتهم عن قصد وتعمد أربعة عمال فلسطينيين وأصابوا سبعة آخرين في مخيم جباليا بقطاع غزة. خرج الآلاف من سكان جباليا وغيرها في قطاع غزة في تظاهرات عنيفة احتجاجا على"الجريمة".

وفي اليوم التالي ازدادت الـتظاهرات واتسعت في غزة، ثم امتدت إلى الضفة الغربية ومنها القدس المحتلة في اليوم الثالث. وهكذا اندلعت الانتفاضة الشعبية فجأة ودون مقدمات مرئية.


صورة لشباب فلسطين في انتفاضة الحجارة


كان عرفات في بغداد عند اندلاع الانتفاضة، وأدرك فوراً أن الكفاح قد دخل حقبة جديدة. وقال في تصريحات صحافية في الأسبوع الأول للانتفاضة: انتفاضة الأرض الـمحتلة تعبر عن رغبة الشعب في التخلص من نير الإمبريالية الصهيونية. وهي انتفاضة سوف تستمر طويلاً .

راح عرفات يعمل من أجل أن تستمر الانتفاضة إلى أطول مدى ممكن، وكان عرفات قد طلب من رفاقه ومساعديه خاصة خليل الوزير تقديم كل الدعم والمساندة بكافة الأشكال للقيادة الوطنية الـموحدة، التي ضمت ممثلين للفصائل الرئيسية المنضوية في إطار منظمة التحرير وتشكلت سرا داخل الأرض المحتلة لقيادة وتنسيق فعاليات الانتفاضة .

و اتخذ رئيس منظمة التحرير قراراً مهماً: منع استخدام الأسلحة النارية في فعاليات الانتفاضة، وقال"إن قوتنا لا تكمن في طبيعة السلاح بل في عدالة قضيتنا، وسلاح الحجارة سوف يقود إلى النصر".

حاولت إسرائيل زرع الشقاق بين القيادة الـموحدة في الأراضي الـمحتلة وبين القيادة في تونس. غير أن العلاقات بينهما ظلت وثيقة، وقد حرص عرفات على ألا يسمح لشيء بتعريض الوحدة الوطنية للخطر، وساهم المناضلون الذين كانت سلطات الاحتلال تبعدهم من الأراضي الـمحتلة مساهمة كبيرة في تعزيز قدرة عرفات في السيطرة على الوضع، فمعرفتهم بالواقع الـميداني وبنقاط ضعف الجيش الإسرائيلي، قد أتاحت لأبي جهاد، الصديق الذي يعتمد عليه عرفات والمسئول عن دعم وإسناد الانتفاضة تنسيق العمل ضد الاحتلال من تونس بشكل أفضل .

استمد عرفات من الانتفاضة قوة سياسية كبيرة وساعده في ذلك حجم التعاطف الشعبي والرسمي عربيا ودوليا مع صورة الشعب الأعزل الذي ينتفض للتخلص من الاحتلال.ومع تعاظم الانتفاضة وتحقيقها مكاسب إعلامية وسياسية للقضية الفلسطينية زادت إسرائيل من بطشها وقمعها، وفكر قادتها بوضع حد لها عن طريق اغتيال خليل الوزير"أبو جهاد" الذي كان يتولى المسؤولية المباشرة لدعمها وتوجيهها .

كان اغتيال القائد الأسطوري للذراع العسكرية لـمنظمة التحرير، والـمكلف بعمليات الـمقاومة في الأراضي الـمحتلة هدفا لإسرائيل منذ زمن طويل، ولكن هذه المرة تم الإعداد "جيدا" من قبل الإسرائيليين. و في أوائل آذار/مارس 1988 اتخذ القرار باغتياله. وجاء تنفيذ الجريمة في ليلة 15/16نيسان/أبريل في منزله في تونس حيث أطلق عليه القتلة 70رصاصة .

أصبح أبو جهاد الشهيد الثاني والأربعين بعد الـمئة من شهداء الانتفاضة. و أثار اغتياله مظاهرات عنيفة في الأراضي الـمحتلة، سماه عرفات "أمير الشهداء"

ووصف بأنه" أول الرصاص وأول الحجارة"، وأصبح رمزا للانتفاضة، التي بدا أنها لن تتوقف.


وفقد ياسر عرفات بذلك نائبه في قيادة قوات الثورة و أقرب أصدقائه ورفيق درب عمره وكفاحه لأكثر من 34 سنة.

نُقل جثمان أبي جهاد إلى دمشق، ووري الثرى يوم 20 نيسان/أبريل، في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك. وتغيب عرفات عن الجنازة بسبب رفض دمشق لدخوله، لكنه وصل إلى العاصمة السورية بعد الدفن بثلاثة أيام ليتوجه بعد وصوله المطار إلى مقبرة الشهداء. استقبله سكان مخيم اليرموك استقبالا حافلا، وخرجت تظاهرات حاشدة حمل خلالها المتظاهرون سيارة عرفات ورفعوها عن الأرض. كان مشهدا مؤثرا جدا. ها هو عرفات يحظى بكل هذه الحفاوة والترحاب في دمشق التي طرد منها قبل خمس سنوات الرئيس السوري حافظ الأسد. ووجد الرجلان فرصة للقاء وفتح صفحة جديدة .


عرفات خلال لقائه حافظ الأسد عام 1988




لقد قلبت الانتفاضة الـمعادلة السياسية: فمنذ السنة الأولى لاندلاعها أصبح العالـم كله ينظر إلى عرفات بعين الاحترام والتبجيل رغم محاولات إسرائيل والولايات المتحدة لتجاوزه.

وحين رتب الأميركيون لعقد لقاء بين الشخصيات الوطنية الفلسطينية وبين وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز في القنصلية الأميركية في القدس المحتلة، أبلغه الوفد الفلسطيني بأن "العنوان الوحيد الذي يمكنه الحديث باسم الفلسطينيين هو ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في مقره في تونس.

وحظي عرفات باستقبال حافل آخر في القمة العربية الطارئة في الجزائر في حزيران /يونيو1988 والتي عقدت لبحث الوضع في الأرض المحتلة. وفي القمة سجل الملك حسين موقفا جديدا وأعلن أن الأردن ليست له أي مزاعم في الأرض الفلسطينية ليتبعها بعد ذلك بأيام بقرار فك ارتباط الأردن مع الضفة الغربية، فسارع عرفات بعد التشاور مع قادة المنظمة إلى إصدار مرسوم من مكتبه في بغداد بتحمل المنظمة لكافة المهام التي تخلى عنها الملك حسين، واعتبر عرفات أن تحمُل هذا العبء الثقيل هو أيضا خطوة عظيمة الأهمية نحو الدولة الفلسطينية الـمستقلة، والنصر الكبير الأول للانتفاضة.

إعلان الاستقلال

لم يكن سهلا على عرفات أن يقنع رفاقه بأن الأوضاع تقتضي مرونة وتغييرات في أدوات النضال، خاصة وأن المنظمة باتت مسئولة عن الضفة الغربية وقطاع غزة بعد قرار الأردن فك ارتباطه بالضفة الغربية، وهي تقود انتفاضة شعبية سلمية. ولكن بعد جهود مكثفة استطاع عرفات الحصول على إقرار من قيادة المنظمة بتغيير إستراتيجيتها، وذلك في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 12ـ15 تشرين الثاني /نوفمبر 1988 التي اعتمدت وثيقة إعلان الاستقلال، وتلاها ياسر عرفات بنفسه "إن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين على أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف".


عرفات في الدورة ال 19 للمجلس الوطني للجزائر




كما اعتمدت الدورة برنامجا سياسيا قبل بموجبه قرار مجلس الأمن الدولي 242 ودعا إلى انعقاد المؤتمر الدولي الفعال الخاص بقضية الشرق الأوسط ، وانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة منذ العام 1967م، وإلغاء جميع إجراءات الإلحاق والضم وإزالة المستعمرات، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين وفق قرارات الأمم المتحدة. كما دعا المجلس الأمم المتحدة لوضع الأرض الفلسطينية تحت إشراف دولي .

وقرر تشكيل الحكومة المؤقتة لدولة فلسطين في أقرب وقت ممكن وطبقاً للظروف وتطور الأحداث.

وفورا اعترفت الجزائر بالدولة الفلسطينية المعلنة لتتوالى بعد ذلك اعترافات 127 دولة في العالم بهذه الدولة "الوليدة". لكن عرفات كان يعرف تماما أن القرار الحاسم بهذا الشأن يعود للولايات المتحدة وإسرائيل، ولهذا تحرك في هذا الاتجاه . ووصل عرفات يوم 6 كانون الأول/ديسمبر إلى العاصمة السويدية ستوكهولم حيث استقبل استقبالا رسميا بمراسم الشرف كما يليق برؤساء الدول، وهناك اجتمع بخمسة من اليهود الأميركيين من أنصار السلام ليتمخض اللقاء عن "وثيقة ستوكهولم" الشهيرة، وهي خطاب موقع من عرفات وموجه إلى وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز يعرب فيه عن الاستعداد للدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل في إطار مؤتمر دولي بهدف عقد اتفاقية سلام شامل تضع حدا للنزاع العربي الإسرائيلي على أساس قراري 242و338. وأن المنظمة تلتزم بالعيش بسلام مع إسرائيل وتعترف بحقها في الوجود والعيش داخل حدود آمنة ومعترف بها ،مثلها مثل الدولة الفلسطينية التي تعتزم منظمة التحرير الفلسطينية إقامتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967.وأنها تدين كل الأعمال الإرهابية التي يقوم بها أشخاص أو مجموعات أو دول على حد سواء .

لقيت هذه الوثيقة أصداء متباينة في الساحة الفلسطينية، رحب بها الكثيرون وتعرضت لانتقادات خاصة من جورج حبش ونايف حواتمة، لكنها لاقت ترحيبا عربيا دوليا واسعا باستثناء الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل .



الحوار مع واشنطن

رغم كل ما قدمه عرفات، واصلت واشنطن ضغوطها عليه فرفضت منحه تأشيرة دخول إلى نيويورك حيث كان يعتزم مخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، فقامت الجمعية العامة في خطوة غير مسبوقة بنقل اجتماعاتها إلى مقرها الآخر في جنيف للاستماع إلى كلمة عرفات.

و في 13كانون الأول/ديسمبر 1988 اجتمع ممثلو159 دولة عضو في الأمم المتحدة ـ بينهم 50 وزير خارجية ـ في جنيف واستمعوا إلى ياسر عرفت لنحو ساعة ونصف عن مبادىء خطة السلام الفلسطينية والمؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط،. واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين الأول حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية بأغلبية 138صوتا مقابل صوتين هما إسرائيل والولايات المتحدة ،والثاني يقر إعلان الاستقلال الفلسطيني،وغيرت تسمية منظمة التحرير الفلسطينية في هيئاتها إلى فلسطين.

وعقد عرفات في اليوم التالي مؤتمرا صحافيا في جنيف ليوضح فيه قبوله بنقاط ثلاث طلبها وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز من الفلسطينيين بواسطة وزير الخارجية السويدي ستين اندرسون في وثيقة سرية مفادها "إن الولايات المتحدة تلتزم بفتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية إذا أعلن عرفات بوضوح تام الموافقة على القرار 242وعلى حق إسرائيل في الوجود،وعلى نبذ الإرهاب. وفعلا بدأ الحوار الأميركي ـ الفلسطيني بعد ذلك. ومع إعلان الرئيس الأميركي رونالد ريغان أن مثل هذا الحوار يشكل خطوة مهمة في عملية السلام ،اعتبر عرفات أنه حقق نصف انتصار.


عرفات في الأمم المتحدة 1988




انتخب المجلس المركزي ياسر عرفات كأول رئيس لدولة فلسطين في نيسان/أبريل1989.

وتابع عرفات هجوم السلام الذي يشنه على إسرائيل، لكن رئيس وزرائها اسحق شامير بقي على تعنته ورفض إجراء أي حوار مع المنظمة .وحتى عندما قال عرفات كلمته الشهيرة "كادوك" أي"عفا عليه الزمن "عن الميثاق الوطني الفلسطيني يوم 2أيار/مايو 1989 في باريس أثناء أول زيارة يقوم بها عرفات لدولة غربية من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن ،عبر شامير عن انزعاجه قائلا " يجب أن يختفي ياسر عرفات من الساحة السياسية، كل ما أريد معرفته هو متى سيغادرها؟"

ولكن عرفات لم يغادر الساحة السياسية ، بل على العكس، زاد من النشاط السياسي الفلسطيني وضاعف بنفسه ومن خلال مساعديه من الاتصالات مع الإسرائيليين المؤيدين للحقوق الفلسطينية والمصنفين ضمن معسكر السلام .

واستمر الحوار الأميركي ـ الفلسطيني وعقدت في إطاره عدة جلسات و لكن الحوار توقف في وقت لاحق عندما طلبت واشنطن من عرفات عزل محمد أحمد فهد "أبو العباس"زعيم جبهة التحرير الفلسطينية من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الأمر الذي رفضه عرفات.وقد جاء الطلب الأميركي على خلفية قضية اختطاف السفينة "أكيلي لاورو " ومقتل مواطن أميركي على متنها في العام 1985.

وفي هذه المرحلة دخل عنصر جديد على حياة الرجل الذي كرس عمره لقضية وطنه وشعبه، ففي 17/7/1990 تزوج ياسر عرفات من سهى الطويل في مراسم على نطاق ضيق جدا في تونس.

وجاءت التطورات الإقليمية لتضغط على ياسر عرفات ولتأخذ منه كثيرا من الوقت والجهد. فبعد غزو العراق للكويت في الثاني من آب/أغسطس1990 حاول عرفات التوسط والوصول إلى حل عربي يمنع تدهورا إضافيا في الموقف ولكن دون جدوى .وجد عرفات نفسه في موقف صعب لا يحسد عليه.

وفي ليلة الرابع عشر من كانون الثاني/يناير1991 وبينما كانت أنظار الجميع تتجه نحو منطقة الخليج العربي حيث بدأ العد العكسي للهجوم الأميركي على العراق، تلقى عرفات ضربة صاعقة أخرى. وصله نبأ اغتيال صلاح خلف "أبو إياد" الرجل الثاني في فتح وذلك في عملية نفذها الموساد الإسرائيلي في قرطاج بتونس بواسطة منظمة "أبو نضال، واغتيل معه هايل عبد الحميد "أبو الهول" عضو اللجنة المركزية لـ"فتح"، وفخري العمري أحد معاوني"أبو إياد". لقد خسر عرفات أحد اقرب معاونيه وصديقا عزيزا على قلبه. وجاء الاغتيال في وقت عصيب فقد كان الجميع منشغلا بما يحدث في الكويت.



مؤتمر سلام مدريد

مع انتهاء حرب الخليج في 1991أصبح الوضع صعبا واعتبر عرفات أن الأمة العربية هي الخاسرة وأن إسرائيل هي الرابحة بعد هزيمة العراق وتدمير الكويت وانهيار النظام العربي،والذي جاء متزامنا مع انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، دفع عرفات والفلسطينيون ثمن ما رأه الكثيرون وقوفا إلى جانب العراق.

وجاءت صيغة المشاركة في المؤتمر الدولي للسلام على حساب الفلسطينيين.اضطر عرفات وبموافقة المجلس الوطني الفلسطيني في دورته العشرين في أيلول/تموز1991في الجزائر إلى قبول صيغة المشاركة الفلسطينية ضمن وفد أردني ـ فلسطيني مشترك يشارك فيه فلسطينيون من سكان الأرض المحتلة مع استثناء سكان القدس.

واعتبر عرفات أن أحد أحلامه يتحقق عندما افتتح العاهل الاسباني الملك خوان كارلوس "مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط"في 20تشرين الثاني/نوفمبر1991 بمشاركة الفلسطينيين برعاية الرئيسين الأميركي جورج بوش "الأب" و السوفييتي ميخائيل غورباتشوف. صحيح أن منظمة التحرير استبعدت من المشاركة بشكل مباشر فيه إلا أنها كانت المرة الأولى منذ العام 1948 التي يكون فيها الفلسطينيون شركاء في المفاوضات مع إسرائيل.

شارك الفلسطينيون ضمن وفد أردني ـ فلسطيني مشترك .وكان عرفات الغائب الأكبر عن المؤتمر لكنه كان حاضرا من خلال الوفد الفلسطيني الذي اختار هو أعضاءه. وبالنسبة له كان عرفات يعتبر أن الوفد الفلسطيني يمثل منظمة التحرير. كانوا يتلقون التعليمات منه من مقره في تونس وكان يقول "لن يتم شيء بدون موافقتنا"


جانب من افتتاح مؤتمر مدريد وكلمة الرئيس الأمريكي بوش




وبعد مؤتمر مدريد انتقلت المفاوضات بين الوفد الإسرائيلي والوفد الأردني الفلسطيني المشترك إلى واشنطن.

بعد زيارة للسودان تحادث خلالها مع الرئيس عمر حسن البشير، وتفقّده الوحدات العسكرية الـمتمركزة بعيدا عن العاصمة ،غادر عرفات مطار الخرطوم يوم الثلاثاء 7 نيسان/أبريل 1992، على متن طائرة قديمة روسية الصنع ، طاقمها مكون من طيارَين فلسطينيين وميكانيكي روماني، ومعه عشرة من حرسه الشخصي وبعض معاونيه، متجهين إلى تونس.كان من الـمقرر أن تهبط الطائرة للتزود بالوقود في مهبط واحة كفره، جنوب شرقي ليبيا. غير أن انعدام الرؤية وشدة الزوابع الرملية اضطرهم إلى تعديل خطتهم. بعد الإقلاع بساعة وأربعين دقيقة، التقط برج الـمراقبة في العاصمة الليبية الرسالة التالية: الرحلة الخاصة الخرطوم- تونس لا تستطيع الهبوط. نواصل طريقنا إلى السارة، نحاول الهبوط الاضطراري. بعدها بخمس دقائق، اختفت الطائرة عن شاشات الرادار الليبية. انقطع الاتصال اللاسلكي معها..أعلنت حالة الطوارئ. وعلى الفور، تناقلت وكالات الأنباء العالمية الكبرى خبرا مفاده: طائرة عرفات اختفت وسط الصحراء الليبية. وساد الاعتقاد لنحو خمس عشرة ساعة بأن الطائرة تحطمت وأن عرفات قد مات.

حين ثارت العاصفة الرملية العاتية،انتقل عرفات إلى مقصورة القيادة. ولـما قرر الطياران الهبوط الاضطراري، طلبا منه أن يعود إلى مؤخر الطائرة، فعاد، وارتدى بزته العسكرية، رغبة منه في أن يكون بثيابه العسكرية إذا لقي حتفه في الحادث. صلّى، وردد الركاب من ورائه آيات من القرآن، ومنها الآية :قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.


طائرة عرفات التي تحطمت في صحراء ليبيا


روى عرفات فيما بعد أنه في لحظة اصطدام الطائرة بالأرض رأى أبا جهاد وأبا إياد، وأكد أحد حراسه أنه سمعه يقول: أبو جهاد، أنا قادم. وظل الطياران والـميكانيكي في مقصورة القيادة، مع أن أنظمة الطيران الدولية تنص على أنه في حالة الخطر، يتعين على أحد الطيارَين أن ينتقل إلى مؤخرة الطائرة للاحتماء. لـم يقبل أحد من الأشخاص الثلاثة الـموجودين في مقصورة القيادة مغادرة موقعه، وراح كل واحد منهم يبذل قصارى جهده من أجل إنقاذ قائد الشعب الفلسطيني والركاب الآخرين.

اصطدمت الطائرة أخيرا بكثيب رملي. قذف عرفات لـمسافة ثلاثين مترا، وسط رمال الصحراء الليبية. كان جميع الركاب جرحى، ولكنهم أحياء ما عدا الطيارَين والـميكانيكي .

كانت الحقائب متناثرة ومدفونة في الرمال، وبمعجزة عثر الناجون على حقيبة يد عرفات، حيث توجد الأسرار الأشد حساسية لـمنظمة التحرير الفلسطينية...

في ساعات الفجر الأولى، وبعد اتصالات واسعة ومعلومات أميركية قدمتها واشنطن إثر اتصالات أجراها مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة الدكتور ناصر القدوة، اكتشفت فرق الاستطلاع الجوي الـمؤلفة من طائرات ليبية ومصرية وفرنسية (قدمت من تشاد) مكان الحادث، وما لبثت فرق البحث الفلسطينية التي انطلقت من معسكر السارة أن وصلت. وهكذا أُنقذ الناجون، وأرسل عرفات إلى الجميع رسالة تضمنت جملة واحدة : أشكركم، أنا بخير، الحمد لله. أبو عمار. وعند الساعة العاشرة من صباح الأربعاء، انتشر الخبر: تم العثور على عرفات حيا في جنوب ليبيا، على بعد 70 كلـم من السارة مع حطام طائرته.

تلقى الفلسطينيون جميعهم الخبر بفرح شديد، وحتى الـمناهضون لعرفات أعربوا عن سعادتهم بنجاته، ومن ذلك مثلا رد فعل منظمة أحمد جبريل (الجبهة الشعبية- القيادة العامة) المناهضة لعرفات والتي بعثت إلى عرفات برسالة تهنئة قالت فيها : "الخاتمة السعيدة لهذه الـمأساة قد جنبت الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني كارثة وطنية - أبعدها الله عنا- لا يعرف عواقبها أحد

في طرابلس، ثم في تونس، التي ما لبث أن عاد إليها متعافيا تماما، تدفقت مظاهرات التعاطف التي قدمت من كافة أنحاء العالـم، فقط في دمشق لـم تقدم الصحافة السورية إلا تقريرا مقتضبا عما حدث.

كان الحادث مناسبة لكي يُطرح لأول مرة السؤال التالي: من سيخلف عرفات إذا اقتضت الضرورة؟ أما عرفات، فقد اكتفى بتصريح قال فيه أنه لـم يكن من الصعب، لو لقي حتفه في الحادث، اختيار بديل له من منظمة التحرير.

عاد عرفات إلى ممارسة نشاطاته العادية بسرعة، في تونس أولا ثم في الخارج. فالتقى بالـملك حسين في عمان، وتباحث معه حول عملية السلام وحرب الخليج، حيث وجدا نفسيهما مرة أخرى في معسكر واحد. شكر عرفات العاهل الأردني لـما أبداه من اهتمام دائم بعد حادث الطائرة: لقد خرجت من هذا الحادث سالـما بمعجزة، وأنا الآن معافى ومستعد لـمواصلة معركتي من أجل فلسطين.

و في عمان في الأول من حزيران/يونيو 1992 وبطلب من الطبيب أشرف الكردي تمكن الملك حسين من إقناع ياسر عرفات بإجراء فحص طبي بعد أن كان عرفات قد اشتكى من ألم حاد في الرأس واصطحبه الملك في سيارته الخاصة إلى مركز الـملك حسين الطبي، حيث أجرى عرفات أخيرا الـمسح الإشعاعي، الذي أظهر وجود كتلة دم متجمدة تحت عظم الجمجمة تهدد بالضغط على نقاط حيوية في الدماغ. وهكذا اضطر عرفات إلى إجراء عملية جراحية بعد ذلك بساعات .

لـم تكن الحالة الصحية لعرفات قبل حادث الطائرة تثير أي قلق خاص، لم يكن ملفه الطبي يتضمن شيئا يستحق الذكر. كان من الـمدهش، بحسب الأطباء، أن تظل صحته جيدة طوال هذا الوقت، بالنظر إلى طبيعة مهامه ومسؤولياته الكبيرة وأسفاره العديدة .

وأكد أخصائي قلب معروف يعمل في الـمركز الطبي الذي أجريت فيه العملية أن قلب عرفات يعمل على نحو مرض، ومن حسن حظه أنه لا يدخن. لـم يكن يعاني لا من ضغط الدم ولا من السكري، ومستوى الكوليسترول لدية غير مرتفع إلا قليلا. لهذا السبب لـم يكن أحد يخشى من حدوث مضاعفات خاصة بسبب إجراء العملية.

"أوسلو"

في الثامن من حزيران/يونيو1992 وأمام عدسات الكاميرات وأعين الصحافيين، استقبل عرفات في عمان أعضاء الوفد الفلسطيني لـمباحثات واشنطن مسجلا بذلك نصرا عظيما.

لـم يتأخر الرد الأميركي، وأعلن الناطق بلسان الخارجية في اليوم التالي أن :منظمة التحرير ليست جزءاً من عملية السلام التي بدأنها. وإننا نشعر بالقلق من اللقاء الذي جرى بين ياسر عرفات والوفد الفلسطيني، وقد اطلعنا الجانب الفلسطيني على ما نشعر به. شجبت إسرائيل بدورها ما اعتبرته محاولة استفزاز، وأعلن رئيس الوزراء الجديد اسحق رابين أن: هذا اللقاء يتناقض مع الالتزامات التي قطعها الفلسطينيون ومع الاتفاقيات التي عقدت مع عرّابي عملية السلام. و سوف تتخذ الإجراءات القضائية اللازمة بحق الذين التقوا عرفات .

أما عرفات فقال وهو يبتسم: بلقائنا، نحن لـم نفعل سوى أن وضعنا النقاط على الحروف!

راوحت مفاوضات واشنطن في مكانها، بينما تواصل الاستيطان الإسرائيلي على قدم وساق. ما الذي كانت تعنيه عملية السلام بالنسبة لإسرائيل؟ كان الوفد الإسرائيلي يقوده الـمتصلب إلياكيم روبنشتاين، وهو سكرتير سابق لشامير، الذي لـم يكن يعتزم التنازل عن شيء. في الجولة الرابعة لـمحادثات واشنطن، هدد رئيس الوفد الفلسطيني حيدر عبد الشافي بقطع الـمفاوضات إن لـم يصدر قرار بتجميد الاستيطان في الأراضي الـمحتلة، وهو ما يرفضه الإسرائيليون قطعا. وبرغم ضغوطات عرفات، الحريص على مواصلة الـمباحثات، أعلن عبد الشافي انسحابه أثناء الجلسة السابعة، في تشرين الأول/أكتوبر 1992، غير أن ضغوط عرفات والـمظاهرات التي تجمعت أمام بيته حملته على التراجع عن قراره والعودة إلى قاعة الـمؤتمرات.

وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1992 زار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إسرائيل وقال أمام قادتها وفي مؤتمر صحافي: منظمة التحرير الفلسطينية هي الـمحاور الوحيد الـممكن، واستنادا إلى الاتصالات القليلة التي أجريتها مع فلسطينيين آخرين، خلصت إلى أنه لا توجد قوة حقيقية غير "م.ت .ف" تلوح في الأفق السياسي، حتى إشعار آخر. طالـما تتجاهل إسرائيل "م.ت.ف"، لن تكون هنالك مفاوضات مثمرة مع الفلسطينيين، أظن أن ثمة دولة فلسطينية قد اعترفت بها الأمم الـمتحدة حين تأسست دولة إسرائيل. إحدى هاتين الدولتين تم إنشاؤها بقوة وشجاعة. أما الدولة الأخرى فظلت معطلة. يبدو لي أنه من الصعب أوّلا أن يعيش شعب بلا وطن، ثم أن يعيش شعب في وطنه بدون مؤسسات وهياكل خاصة به تؤدي طبيعيا إلى تشكيل دولة.

في تلك الأثناء، كانت تسود الجانبَ الفلسطيني حالة من السخط الـمتزايد بسبب ركود الـمفاوضات. فطالب قسم من الـمعارضة ومعهم أعضاء من "فتح"، بوضع حد لهذه الـمباحثات العقيمة. وما لبثت أن صدرت عريضة وقع عليها أكثر من ثلث أعضاء الـمجلس الوطني الفلسطيني تطالب بوقف الـمفاوضات إلى أن تتم الـموافقة على اشتراك "م ت ف فيها" رسميا، وإلى أن يتم تجميد الاستيطان الإسرائيلي. و بلغ الاحتقان حدا قرر معه الـمجلس الثوري لـ "فتح"، عشية الدورة التاسعة للـمباحثات (أواخر نيسان/أبريل 1993)، وقف العملية. ومرة أخرى، هدد عرفات بالاستقالة وفرض عليهم التراجع، كان يخشى أن يتمكن الأميركيون والإسرائيليون من الانفراد بالوفد الفلسطيني وعزله تدريجيا، ما يشكل تهديدا للشعب الفلسطيني ولـ" م ت ف". لهذا السبب ظل عرفات متوخيا أقصى درجات الحذر، ينتبه لأقل تفصيل من تفاصيل الـمحادثات، ويقارن بين الـمعلومات ويربطها ببعضها البعض، خاصة انه كان قد سمح لعدد من مساعديه بفتح قناة محادثات سرية مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وكان يتابع مساري التفاوض العلني في واشنطن والسري في العاصمة النرويجية أوسلو .

انتظر كل من عرفات وشريكه في القناة السرية للمفاوضات. رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين، قبل دخولهما الشخصي في العملية، ليتأكد كل منهما أن الآخر سيعطي موافقته على اقتراحات الـمفاوضين. وتأكد رابين من حقيقة لا تقبل الشك، وهي:استحالة الالتفاف على "م ت ف"، فهي التي تخوض الـمفاوضات السرية وهي التي تخوض الـمفاوضات العلنية، وهي وحدها، بقيادة عرفات، الضمانة لأية اتفاقية.

اقترحت إسرائيل في المفاوضات السرية تسليم" غزة أولا"..لكن عرفات أصر على "غزة ـ أريحا أولا" ليؤكد وحدة الأراضي الفلسطينية المحتلة..الضفة الغربية وقطاع غزة .

كان عرفات قد وجه من مقره بتونس، يوم 21 كانون الثاني/ديسمبر 1992، رسالة هاتفية إلى الإسرائيليين نقلها التلفزيون الإسرائيلي، دعا فيها رئيس الوزراء اسحق رابين إلى " لقاء الشجعان من أجل إقامة سلام الشجعان، الذي سوف تنظر إليه الأجيال القادمة على أنه الركيزة الأولى لبناء السلام"، مؤكدا أيضا "على ضرورة القيام بمبادرات من كلا الطرفين لإقامة سلام حقيقي وثابت على هذه الأرض التي تعرضت لكثير من العذابات. إن مثل هذا اللقاء من شأنه أن يسرّع من عملية السلام.."

كان عرفات يفكر في كيفية حمل رابين على القبول بهذا اللقاء. فعمل عرفات في اتجاهين: بتسريع محادثات السلام من جهة، ولكن بتصعيد الانتفاضة أيضا. وهكذا دعا عرفات الفلسطينيين في الأراضي الـمحتلة إلى تصعيد الـمقاومة، وإلى "حرق الأرض تحت أقدام الـمحتلين".

في ربيع 1993، قدّم عرفات عن طريق الوفد الفلسطيني في واشنطن سلسلة من الـمطالب: ضم ممثلين رسميين عن" م ت ف " إلى الوفد، عودة الاتصالات الـمباشرة مع الولايات الـمتحدة، اعتراف إسرائيل رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية. وأشاع أيضا أنه لن يسمح بأي تقدم في محادثات واشنطن إن لـم تعالج مسألة السيادة الفلسطينية بوضوح في الاتفاقيات الـمرحلية. بالتوازي مع ذلك، قدم اقتراحا عن طريق الـمستشار النمساوي فرانز فرانيتسكي ينص على أن يقوم الـمندوبون الفلسطينيون والإسرائيليون، بمساعدة الأميركيين، بإبرام اتفاقية مبادئ حول الحكم الذاتي في الأراضي الـمحتلة.

أخيرا، وجه في حزيران/يونيو رسالة سرية مهمة إلى رابين أكد فيها أنه هو الوحيد القادر على حمل الفلسطينيين على عقد اتفاقية مع إسرائيل. وما لبث الوفدان المتفاوضان في أوسلو بعد ذلك أن تبادلا سرا مسودة الاتفاقية.

و في 20 آب/أغسطس1993، أبرمت اتفاقية أوسلو في جو من الغبطة، وعقب عرفات من تونس قائلا:"أشعر أن الدولة الفلسطينية ليست بعيدة. يجب أن ننظر إلى الـمستقبل بعين الأمل".

في أواخر الشهر نفسه، أرسل الرئيس عرفات الوفد الفلسطيني إلى واشنطن، حيث افتتحت الجلسة الحادية عشرة للـمحادثات للتفاوض حول خيار "غزة ـ أريحا أولا"، وفقا للاتفاقيات.

وأطلع عرفات أعضاءَ اللجنة التنفيذية للمنظمة على مشروع إعلان مبادئ ينص على إقامة سلطة وطنية فلسطينية في الأراضي الـمحتلة خلال الفترة الانتقالية، على أساس حق الشعب الفلسطيني في السيطرة على أرضه، وعلى موارده، وعلى مقدّراته الوطنية .

وفي 13أيلول/سبتمبر1993وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض بواشنطن" اتفاق أوسلو"بحضور الزعيم الفلسطيني.


عرفات في واشنطن عام 1993




وها هو عرفات يعود إلى الولايات المتحدة لأول مرة منذ وقفته الشهيرة في الأمم المتحدة في نيويورك قبل 19 سنة، لكنه الآن ببزته العسكرية في البيت الأبيض يصافح اسحق رابين رئيس وزراء العدو" ليصنع معه سلام الشجعان."

رأى عرفات في الحدث اعترافا بالشعب الفلسطيني وبحقوقه من الذين حاولوا شطبه من الوجود .. وهذا الاعتراف يتم برعاية بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأميركية. القوة العظمى في العالم، إنها خطوة تمهيدية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة تمارس سيادتها على الضفة الغربية ( بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة .أما رابين فرأى فيه بداية تسوية لنزاع طويل وعسير مع الفلسطينيين. كان عرفات مدركا تماما للثغرات في اتفاقية أوسلو، لكنه كما قال "ما حصلنا عليه هو أقصى ما استطعنا الحصول عليه، وأقصى ما استطاعوا تقديمه لنا، وخلال أشهر ستعود قيادة الشعب الفلسطيني إلى الوطن، وسيرفرف العلم الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. وسيكون لنا جواز سفر. لننظر إلى المستقبل".

وها هو عرفات. قائد الشعب الفلسطيني ورمز قضيته يدخل إلى البيت الأبيض من أوسع أبوابه، ويدخل أيضا إلى وسائل الإعلام الأميركية التي استغلها ببراعة. دعته كل الـمنابر التلفزيونية ليتحدث عن عملية السلام، وحتى عن أرئيل شارون، فحاز على إعجاب محاوريه وزادت شعبيته.

لقي الاتفاق معارضة وانتقادات من البعض في الساحة الفلسطينية لكنه لقي ترحيبا شعبيا واسعا في الضفة الغربية وقطاع عزة، حتى بين اللاجئين في المخيمات داخل الوطن وفي الشتات لقي الاتفاق ترحيبا وأثار آمالا بإمكانية تغيير الواقع وبمستقبل أفضل.

وفي 12تشرين الأول/أكتوبر1993صادق المجلس المركزي الفلسطيني على الإتفاقية بـ63 صوتا ومعارضة 8 وامتناع 9، كما صادق على تشكيل أول سلطة وطنية فلسطينية في التاريخ وهي التي ستتولى إدارة الأراضي المحتلة إلى أن تجري الانتخابات.

العودة إلى الوطن

واصل عرفات "معركة" التفاوض مع إسرائيل بنفس الروح التي حركته دائما: يريد سلام شجعان ومستقبلا أفضل لشعبه وللإسرائيليين، ولكن دون تنازل عن الحقوق. أما على الجانب الآخر حاول الإسرائيليون الالتفاف على الاتفاق وتفريغه من محتواه والتملص من تنفيذ استحقاقاته. شعر ياسر عرفات بأن الإسرائيليين خدعوه. لكنه واقعي يتعامل مع التطورات ويسعى لتطويعها لمصلحة قضيته، فتحرك عرفات ليحافظ على قوة "الدفع" الناشئة آنذاك وكانت فرنسا أول دولة غربية يزورها بعد اتفاق أوسلو، واستقبل هناك كممثل للكيان الفلسطيني الجديد. قدم الاتحاد الأوروبي 600 مليون دولار لمساعدة الكيان "الوليد".


عرفات في زيارة لفرنسا




وبدأت المساعدات العربية بالتدفق بعد أن التقى عرفات في كانون الثاني/ديسمبر1994بالعاهل السعودي الملك فهد لأول مرة منذ حرب الخليج.

وفي صبيحة 25شباط/فبراير 1994استيقظ عرفات على نبأ مجزرة الحرم الايراهيمي في الخليل. قتل الإسرائيلي باروخ غولدشتاين 29 من المصلين الفلسطينيين عند صلاة الفجر داخل المسجد. وطلب عرفات من مجلس الأمن إرسال قوات دولية إلى الأراضي المحتلة لمنع تكرار المجازر. رفضت إسرائيل و تدهور الموقف على الأرض، ولكن كان لابد من المواصلة في التفاوض لتنفيذ اتفاق أوسلو.

وفي الرابع من أيار/مايو1994 وقع عرفات مع رابين في القاهرة اتفاقية حول قطاع غزة ومنطقة أريحا لتبدأ مرحلة نقل الأراضي المحتلة"غزة ـأريحا أولا"، وكان الأمر بالنسبة لعرفات بداية العد العكسي نحو إقامة الدولة المستقلة.

بعد التوقيع بأسبوع بدأت القوات الإسرائيلية في الانسحاب من قطاع غزة وأريحا.

وفي الأول من تموز/يوليو1994 كانت فلسطين على موعد خاص مع القائد . كانت تلك هي الـمرة الأولى التي يعود فيها إلى أرض الوطن، ليس كفدائي متخفِ، بل في إطار اتفاقية سلام وقّع عليها، ومعززة باعتراف دولي و أمام عيون الملايين في العالم الذين تابعوا عبر الشاشات مشاهد عودته. رافقه الرئيس مبارك حتى الحدود التي تقسم بلدة رفح إلى شطرين. ودّع عرفات مبارك، وفي الساعة الثالثة من بعد الظهر، قبّل أرض الوطن على الجانب الآخر من الحدود وأدّى الصلاة شكرا وحمدا لله على العودة إلى وطنه بعد 27سنة من الغياب القسري.

كانت الجماهير تنتظره على أحر من الجمر، كانت اللحظات مفعمة بالعواطف والمشاعر. وكان الصخب هائلا وكان المشهد تاريخيا. علّقت انتصار الوزير "أم جهاد"، التي وصلت مع عرفات في القافلة ذاتها، قائلة: انتظرت طوال حياتي هذه اللحظة. لقد استشهد زوجي"أبو جهاد" من أجلها.


عرفات في غزة عام 1994




تدافعت الحشود من كل الجهات على "أبو عمار". كانت الطريق مزدانة بالأعلام الفلسطينية وبصور عملاقة للرئيس عرفات. اكتظ ميدان الجندي الـمجهول في غزة بعشرات الآلاف من المتعطشين إلى رؤيته. تسلق الشبان الأشجار والأسطح ليشاهدوا عن بعد ذلك الفدائي العائد. القائد الذي يرمز إلى الحرية والكرامة الـمستعادتين. وما أن ظهر على الـمنصة، حتى اندفع الجمهور كموجة هائلة نحوه، محطما الحواجز، كاسرا سياج رجال الشرطة.

توجه عرفات بعد ذلك إلى مخيم جباليا الذي انطلقت منه الانتفاضة وقال هناك: " لنتحدث بصراحة: قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة".

في اليوم التالي، عبَر قطاع غزة بسيارته، متوقفا من حين لآخر لـمصافحة الناس. اشتدت حماسة الجماهير، فأمر أبو عمار رجال الشرطة بأن يدَعوهم يقتربون منه ويلـمسونه. اندفعت الجموع، واكتسحت في طريقها حرس الرئيس.

وفي الثاني من تموز/يوليو،اندلعت موجة من التظاهرات اليمينية في إسرائيل، وبخاصة في القدس، إثر شائعة مفادها أن عرفات سوف يعرّج في طريقه من غزة إلى أريحا على الـمسجد الأقصى لأداء الصلاة.


ملصق تحريضي ضد عرفات يحملوه متطرفون اسرائيليون




لكن عرفات انتقل من غزة إلى أريحا في ذلك اليوم على متن طائرة مروحية، وخرج المواطنون لاستقباله بحماسة أعادت إلى الأذهان مشاهد غزة. بل وفاقتها. إنهار حاجز الأسلاك الشائكة الـمزدوج الذي يحمي الـمنصة تحت ضغط الجماهير، وهتف عرفات مطولا مع الـمتظاهرين بـ"الروح بالدم نفديك يا فلسطين"، ثم راح يهدئ الجماهير شيئا فشيئا، حتى بدا كأنه مايسترو يقود فرقة موسيقية. بكى الكثيرون تأثرا...إنها لحظات وطنية تاريخية تستحضر التضحيات وتعطي أملا بأن التحرر من الاحتلال قد بدأ فعلا.


عرفات في الوطن


وفي الـمقر الجديد للسلطة الفلسطينية الجديدة في أريحا، أدت الحكومة الفلسطينية الأولى اليمين الدستورية. ردد عرفات، ومن ورائه اثنا عشر وزيرا: أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لوطني، ولقيمه الـمقدسة ولترابه الوطني، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أعمل لـمصلحة الشعب الفلسطيني، وأن أقوم بواجبي بإخلاص. والله شاهد على ذلك.


عرفات يترأس اول اجتماع للسلطة عام 1994




وبعد عشرة أيام من زيارته الخاطفة إلى غزة وأريحا، بدأ ياسر عرفات يستعد لـمغادرة تونس إلى الوطن ليستقر نهائيا في فلسطين. و قبل ساعات من سفره، توجه إلى قصر قرطاج لوداع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وأعضاء حكومته بعد أن كان قد زار مقبرة الشهداء الفلسطينيين في تونس.




عرفات وزين العابدين الرئيس التونسي السابق












بناء السلطة الوطنية


عرفات يضع حجر الأساس لأحد مشاريع غزة عام 1994


في 12 تموز/يوليو، وصل عرفات إلى غزة وفور وصوله توجه إلى مكتبه، وعقد أول اجتماع مع زملائه في القيادة الفلسطينية. كانت تنتظرهم مهمات ضخمة ومطلوب انجازها هذه المرة ولأول مرة من أرض الوطن وليس من المنافي .

ومن مقره في"المنتدى" بغزة بدأ عرفات معركة بناء السلطة الوطنية وإقامة مؤسساتها. كان مكتبه شبيهاً بذلك الذي تركه في تونس: قاعة اجتماعات، مكاتب، وغرفة ليقضي فيها قيلولته التي لا غنى عنها. الصور ذاتها التي كانت تزين مكتبه في تونس - صورتان لأبي جهاد وأبي إياد، ومنظر للحرم القدسي-، بالإضافة إلى نقش للوصايا العشر في غرفة جانبية، وهي هدية من وزير الشؤون اليهودية في السلطة الفلسطينية، الحاخام موشيه هرش الذي ينتمي إلى طائفة "ناطوري كارتا"

بدأ عرفات تنظيم قوى الأمن التي تشكلت من قوات "م ت ف"، الـمرابطة حتى ذلك الوقت في بلدان عربية عديدة. وكان الاقتصاد يتمتع بالأولوية في نظر الرئيس عرفات. و لـم يكن في الشهور الأولى من تأسيس السلطة الفلسطينية في غزة أي هيكل اقتصادي. لانتظام ضرائب، ولا قوانين استثمار، ولا إجراءات تنظيمية لـمنح القروض. لقد ورثت السلطة الفلسطينية في الواقع اقتصادا منهارا تماما وبنى تحتية مدمرة. أزمة سكن حادة، مجاري مفتوحة على الفضاء، وخدمات صحية شبه مشلولة .

كان عرفات يرى أن"إغلاق" الأراضي الفلسطينية، الذي تفرضه إسرائيل منذ أوائل 1993 سبب رئيسي في تكريس انهيار الاقتصاد. واشتكى عرفات من الصعوبات التي تبرز أمام تطبيق الاتفاقيات، ومن أن الإسرائيليين يتصرفون وكأنهم بتوقيعهم اتفاقيات أوسلو قدّموا مكرمة للفلسطينيين. لكن عرفات أوضح لهم:"الطرفان يقدمان ويأخذان. بالنسبة لنا، نحن أعطينا شيئا غاليا جدا: وهو اعترافنا بإسرائيل، الذي فتح لكم أبواب العالـم العربي، لطالـما حلـمتم بهذا منذ إنشاء دولتكم، كما أعلنتم في العديد من الـمرات".

وفعلا شجعت مفاوضات أوسلو على استمرار الاتصالات الأردنية ـ الإسرائيلية علنا، وتكثفت هذه الاتصالات بعد التوقيع على إعلان الـمبادئ في واشنطن. ومنذ اليوم التالي لهذا التوقيع، عقد البلدان في وزارة الخارجية الأميركية اتفاقية حول جدول أعمال مفاوضات السلام بينهما. بعد توقيع اتفاقية القاهرة بين منظمة التحرير وإسرائيل في أيار/مايو 1994، التقى الملك حسين ورابين في لندن في الشهر ذاته. وفي أواخر تموز/يوليو 1994، أي بعد أسبوعين من استقرار عرفات في غزة، وقع حسين ورابين وكلينتون إعلان واشنطن، الذي يدعو إلى وضع حدّ لحالة العداء بين البلدين وإلى التطبيع الفوري للعلاقات بينهما. وثارت ثائرة عرفات الذي رأى في إعلان واشنطن انتهاكاً لاتفاقيات أوسلو، لان الفقرة الثالثة من الاتفاقية الأردنية ـ الإسرائيلية تجاهلت الفلسطينيين في موضوع أساسي هو القدس. فقد نصت على ما يلي: تحترم إسرائيل الدور الخاص للـمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية الـمقدسة في القدس، وعندما تبدأ الـمفاوضات حول التسوية النهائية، سوف تمنح إسرائيل أفضلية مميزة للدور التاريخي للأردن في هذه الأماكن. بينما نصت اتفاقية أوسلو على أن مستقبل القدس سوف يبحث بين الفلسطينيين والإسرائيليين في بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

تلك هي الـمرة الأولى التي تقطع فيها إسرائيل تعهداً على نفسها حول الوضع النهائي للـمدينة. أما الضمانات الـمعطاة للفلسطينيين حول هذه النقطة فلا تتعلق في الواقع إلا بالوضع الراهن، وليس بالاتفاقية النهائية... وهذا ما اغضب عرفات الذي "انفجر" غضبه مرة أخرى إثر توقيع اتفاقية السلام الأردنية ـ الإسرائيلية في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة، والتي وردت فيها الفقرة ذاتها الخاصة بالقدس التي جاءت في إعلان واشنطن.

وبالنسبة لعرفات فالـمسألة تتعلق بالسلام والحرب، وهو يؤكد دائما أن السيادة على الجزء العربي من القدس حق يعود إلى الفلسطينيين، ولا يحق للـمحتل الإسرائيلي أن يتصرف به على هواه. القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية. إنها ليست للبيع، هكذا قال محتدا في خطابه أمام طلاب جامعة الأزهر في غزة بعد الاتفاق الأردني ـ الإسرائيلي.

اغتيال رابين

في تموز/يوليو1994، تسلـم عرفات ورابين وبيريس، برعاية اليونسكو، جائزة هوفويه ـ بوانيي وذلك في جو ودي للغاية، وتخللته مصافحة بين عرفات ورابين وبيريس وسط تصفيق الحاضرين.

و في تشرين الثاني/نوفمبر 1994، تسلـم عرفات مع رابين والـملك حسين جائزة السلام، التي منحت لهم من صندوق رونالد ريغان في لوس أنجيلوس. بعدها بأسبوع، تسلم عرفات ورابين والملك حسين جائزة أستورياس، التي تحمل اسم ولي عهد العرش الإسباني، الذي قدمها لهم بنفسه.


عرفات يتسلم جائزة نوبل للسلام


اختتمت تلك السنة بجائزة نوبل للسلام التي منحت لعرفات ورابين وبيريس. وأصدر حزب الليكود اليميني الإسرائيلي بيانا عنيف اللهجة جاء فيه: رابين وبيريس يلحقان الإهانة بالشعب اليهودي بتقبلهما جائزة نوبل شراكة مع قاتل شعبهما. وجاء بيان الليكود في سياق حملة تحريض يمينية متطرفة وواسعة ضد شريك ياسر عرفات في "سلام الشجعان" اسحق رابين.

وفي الجانب الفلسطيني وبينما كانت تجري مباحثات سرية لدمج "منظمات الرفض" في السلطة الفلسطينية، أقدمت إسرائيل على اغتيال أحد مناضلي حركة الجهاد الإسلامي فثارت انتقادات للسلطة، واستغل رؤساء أجهزة الأمن الإسرائيلية الحادث ليشككوا في شعبية ومكانة عرفات، وليتساءلوا إن كان بمقدوره مواجهة حرب أهلية. كان المسئولون الإسرائيليون يحلـمون باندلاع مواجهة شاملة، غير أن عرفات الذي كان دائما يعمل على تجنب فخ الحرب الأهلية، أوضح لرابين أنه على العكس من ذلك يسعى إلى ضم الـمعارضة الأصولية - وبالدرجة الأولى حماس - إلى حكومة وحدة وطنية.

ولكن خلافا لرغبة عرفات اندلعت اشتباكات دموية في غزة بين الشرطة الفلسطينية ومقاتلين من حماس قرب مسجد فلسطين يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1994، وذهب ضحيتها 16قتيلا وأكثر من100 جريح. واعتبر عرفات أن من ارتكب"الـمجزرة" هم عملاء لإسرائيل من أجل خلق اضطرابات في قطاع غزة وزعزعة الاستقرار. وقد أطلقوا رصاصا متفجرا على رؤوس ثمانية من " فتح" من مسافة قريبة. وسقط قتيلان آخران من الشرطة وكان معظم الضحايا من مؤيدي السلطة ومسيرة السلام .

دخلت حماس في صراع ضد السلطة، فُرضت حالة الطوارئ في قطاع غزة. وألقى عرفات خطابا حماسيا شجب فيه أولئك الذين يسعون "لتدمير السلام"، الذين وصفهم بأنهم يتصرفون بتوجيهات من دول خارجية، ولكنه دعا أيضا إلى إطلاق سراح كافة الـمعتقلين الفلسطينيين، بمن فيهم " الشيخ الجليل أحمد ياسين". مؤسس حماس المعتقل في إسرائيل.

وفيما كانت الـمباحثات حول الاتفاقيات تراوح مكانها، تواصلت العمليات الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية في ذلك الوقت، و فتح عرفات ورابين قناة ثانية "سرية" لـمحادثات أكثر فعالية، وبدأ العمل بها منذ كانون الأول/ديسمبر 1994. غير أن الـمطالب الإسرائيلية بخصوص الأمن أثارت مرة أخرى خلافات كبيرة. حذر عرفات ممثله في المفاوضات أحمد قريع "أبوعلاء" من هذه النقطة، مشيرا إلى أن الإصرار الإسرائيلي على موضوع الأمن هدفه تبرير الاستيطان.

وبينما استمرت الـمحادثات مع إسرائيل، تواصلت الـمواجهات بين الشرطة الفلسطينية وحماس. ولم تتوقف العمليات من "حماس" و"الجهاد" ضد الإسرائيليين. وكانت إحدى العمليات الأكثر عنفا هي تلك التي نفذتها حركة الجهاد الإسلامي يوم 22 كانون الأول/ديسمبر 1995 في بيت ليد وقتل فيها 21 إسرائيليا، معظمهم من الجنود. أدان عرفات العملية فورا، وقدم تعازيه لرابين .. كان الرئيس الفلسطيني يخشى أن تنسف مثل تلك العمليات جهود السلام .

في أواخر نيسان/أبريل 1995، صادق رابين على أضخم مصادرة للأرض تمت في القدس الشرقية منذ خمسة عشر عاما. كان الهدف منها إنشاء 2500 مسكن للمستوطنين الإسرائيليين. استنكر ياسر عرفات هذه الـمصادرات أمام تجمع جماهيري بمناسبة الأول من أيار/مايو في غزة، داعيا الـمجتمع الدولي للتدخل. ساندته حينها حركة السلام الآن الإسرائيلية، وأرسلت له وفدا لدعوته للـمشاركة في تجمع ضخم سيتم تنظيمه في تل أبيب فوافق. كان يريد أن يغتنم أية فرصة ليدفع بمسيرة السلام إلى الأمام. غير أن رئيس السلطة الفلسطينية لـم يحصل على تصريح لدخول إسرائيل، حيث خشي رابين من ردود فعل اليمين الإسرائيلي.

و بعد عام على قيام السلطة ورغم ما حدث من صدامات داخلية بقيت مكانة عرفات في الساحة الفلسطينية لا تُنازع. أظهر استطلاع للرأي أن 4ر87%،يثقون بعرفات، وحصل الشيخ أحمد ياسين على 9ر01%، وحيدر عبد الشافي على 1ر7%، وفيصل الحسيني على 4ر3%. فعلاوة على تاريخه النضالي المعروف جيدا للفلسطينيين، كان نمط حياته الـمتواضع واضحا أيضا ومعروفا للجميع. كان أي مواطن يجد طريقه إلى عرفات ويجد عنده المساعدة التي يريد.


عرفات وبحر غزة 1995




وفي 24 تموز/يوليو 1995 رزق ياسر عرفات بابنته زهوة، التي وُلدت في الـمستشفى الأميركي في "نويي"في باريس. كان الأب في أريحا حين تلقى الخبر هاتفيا، وقالت له زوجته سهى :إنها صورة عنك. ووصفتها فيما بعد بأنها عنيدة مثل والدها... وبعد يومين وصل عرفات إلى باريس، وبعد لقائه بالرئيس شيراك، توجه إلى الـمستشفى واحتضن ابنته معتزا وفخورا بها.

في ربيع وصيف 1995 تكثفت الـمباحثات حول اتفاقية "أوسلو 2 " وأخذ ياسر عرفات يفاوض، ويساوم، ويكسب أحيانا. وكان إذا ما اصطدم، كما هو الحال في معظم الوقت، بجدار الرفض الإسرائيلي ..كان بارع في التصدي ..بل وإثارة زخم محلي وإقليمي ودولي للتغلب على ذلك الرفض. ومن ذلك مثلا، أثناء الـمرحلة الأخيرة من الـمفاوضات في طابا، صيف 1995، وحين عرضت عليه خريطة إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، غادر مائدة الـمفاوضات غاضبا. كان من الـمستحيل عليه، كما أوضح للصحافيين، أن يوافق على إجراء لا يتضمن أي تواصل جغرافي بين مدن الضفة الغربية السبع أو بين قراها. كانت هذه الخريطة تمثل كانتونات متجاورة في منطقة سوف تكون السلطة فيها للإسرائيليين حتى بعد إعادة الانتشار. وبضغط من الرئيس مبارك، وافق على العودة إلى التفاوض، وتمكن من انتزاع بعض التعديلات.

في صيف 1995، فرض عرفات هدنة على حماس وغيرها من التنظيمات الفلسطينية، غير أن الدعاية الـمناهضة لأوسلو تواصلت على مستوى الشارع، وأصبح الجميع يخشى أن يتعرض رئيس السلطة لـمحاولة قتل. في الجانب الإسرائيلي، شكل أنصار إسرائيل الكبرى لجنة راحت تضاعف من الحملات والـمظاهرات ضد الحكومة، وبخاصة ضد رابين. وُصف رئيس الوزراء بأنه "خادم لعرفات" و "مجرم" .. وأُطلقت دعوات إلى قتله بررتها الفتاوى الحاخامية بحجة أنه "يعطي أرض الـميعاد إلى غير اليهود ". ورفع الـمتظاهرون في الشوارع صورا لرابين يغطي رأسه بكوفية عرفات وعليها كلمة "كاذب".

وفي 28 أيلول/سبتمبر 1995، وقع عرفات ورابين في واشنطن "الاتفاق الانتقالي الفلسطيني الإسرائيلي حول الضفة الغربية وقطاع غزة" والذي اشتهر بـ"أوسلو 2 "، بحضور الرئيس كلينتون والـملك حسين. يحدد هذا الاتفاق، بملحقاته العشرة، الانسحاب الإسرائيلي من الـمناطق الـمكتظة بالسكان الفلسطينيين، وتوسيع نطاق الحكم الذاتي الفلسطيني، وينص على انتخاب مجلس فلسطيني من 88 عضوا، يتمتع بسلطات شرعية ويمارس سلطة تنفيذية محدودة.


عرفات في واشنطن وتوقيع اوسلو 2




ويقسم الاتفاق الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق. الـمنطقة "ا" و "ب " و"ج " تنسحب القوات الإسرائيلية منها ـ خلال 18 شهرا على ثلاث مراحل ـ و تلتزم" م ت ف"، من جهتها، بإلغاء بنود الـميثاق الوطني التي "تنكر حق إسرائيل في الوجود". ويتعين أن تبدأ مباحثات الحل النهائي للنزاع في موعد أقصاه أيار/مايو 1996، بهدف توقيع اتفاقية قبل تشرين الأول/أكتوبر 1999.

وفي زيارة إلى واشنطن التقى عرفات مع نحو 200 من المثقفين الفلسطينيين البارزين الذين يعيشون في الولايات الـمتحدة، عبّر معظمهم عن تحفظهم بل انتقادهم لعملية أوسلو، فقال لهم: سأخبركم أمرا .. أنا أيضا لي تحفظات. ولكن لا تنسوا أننا حققنا شيئا مهما، وهو أن شعبنا عاد ليشغل مكانه على خارطة الشرق الأوسط. بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وبعد حرب الخليج التي وضعت، وللآسف حدا نهائيا للتضامن العربي، جرت محاولات لشطب الفلسطينيين عن الخارطة. لا تظنوا أنه من الصعب شطب شعب عن الخارطة. بل هو أمر ممكن، قد تظل الشعوب في هذه الحالة موجودة، ولكن لا يعود أحد يسمع صوتها. بالنسبة لنا، لقد تجاوزنا هذه الأزمة بفضل اتفاقية أوسلو.

عاد ياسر عرفات إلى الولايات الـمتحدة في تشرين الأول/أكتوبر، حيث دعي للـمشاركة في الذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الأمم الـمتحدة، وفي هذه المرة شارك بالصفة الرسمية ذاتها التي يتمتع بها زعماء الدول المائة والخمسين الآخرين. وتغيرت علاقته مع اسحق رابين وصارت تتسم بطابع ودي، و أشاد به رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام الجمعية العامة، فخرج عن نص خطابه الرسمي ليعبر عن تقديره الشخصي لـ "شريكنا في عملية السلام "، كاستجابة منه لبادرة عرفات الذي جاء إلى القاعة ليستمع إلى كلـمته.. وتصافح الرجلان أمام مدخل الأمم المتحدة ..وكان ذلك آخر لقاء بينهما.

تصاعدت الحملات اليمينية في إسرائيل ضد رابين. و في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، رد رابين عبر التلفزيون الإسرائيلي على الانتقادات التي توجه إليه، فقال مشددا:أصبح عرفات شريكنا في عملية المصالحة بيننا وبين الفلسطينيين. لكن لم يلبث رابين أن تعرض للاغتيال في الرابع من تشرين الثاني / نوفمبر 1995على يد يغئال عمير، الطالب اليميني المتطرف، اليمني الأصل.

كانت تلك صدمة شديدة لياسر عرفات الذي قال فور سماعه النبأ" لا أستطيع التصديق، أية كارثة هذه! " لقد شعر عرفات بأنه خسر "شريك سلام الشجعان"..ها هو "الجنرال" الذي تغير وتحول إلى صنع السلام يغيب عن الساحة الآن.

لم تسمح السلطات الإسرائيلية لعرفات بالمشاركة في تشييع رابين. لكنه حرص على تقديم تعازيه شخصيا إلى ليئا زوجة اسحق رابين، بعد ستة أيام من الاغتيال، اصطحب كلا من محمود عباس "أبو مازن" وأحمد قريع"أبو علاء"، في زيارة لأسرة رابين في حي" نيفيه أفيفيم "شمالي تل أبيب.

كانت تلك هي المرة الأولى التي يدخل فيها ياسر عرفات إلى" الأراضي الإسرائيلية". كان بادي التأثر، وقبّل الأبناء والأحفاد، ودعا ليئا رابين بـ "أختي"، وقال إنه فقد صديقا. وفي مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، قالت ليئا :" كان زوجي، وأنا كذلك، نحترم ونقدر ياسر عرفات كثيرا. يتصف زوجي وعرفات كلاهما بالصفات القيادية ذاتها. ليس من شيمتهما الغش. اكتشفت أن ياسر عرفات رجل يتحلى بالعديد من صفات الجدية والمسؤولية. إنني أكنّ له التقدير. تأثرت كثيرا بما أبداه من ودّ إنساني حار تجاهي. إن حزن عرفات بعد وفاة اسحق كان عميقا وصادقا. وكذلك كانت تعازيه، الأكثر عمقا وصدقا على كل حال من بعض الشخصيات المعارضة الإسرائيلية" .



انسحابات وانتخابات

خلف اسحق رابين في رئاسة الحكومة مساعده وشريكه في أوسلو، شمعون بيريس، الذي يعرفه عرفات جيدا، والذي أمُل أن يواصل معه تطبيق الاتفاقيات. في لقائهما الأول، يوم 7 كانون الأول/ديسمبر 1995، اتخذا قرارا بمواصلة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة دون إبطاء.

لم يبدُ وقتها أن مقتل رابين قد يعرقل عملية السلام. وهكذا تم بعد أسبوعين نقل مدينة جنين في شمال الضفة الغربية، إلى السيطرة الفلسطينية وتم الانسحاب الإسرائيلي منها وفق ما هو متفق عليه. و خرج عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال إلى الشوارع لاستقبال عرفات والترحيب به. زُينت المدينة بالأعلام الفلسطينية وبصور القائد، الذي ألقى خطابا مؤثرا أشار فيه إلى تلك الأيام التي قضاها في المنطقة التي تسلل إليها صيف عام 1967 من أجل تنظيم المقاومة المسلحة.

بعد جنين، توجه أبو عمار إلى نابلس بعد خروج قوات الاحتلال منها، واعتلى مبنى المحافظة وألقى خطابا روى فيه الذكريات عن تجربته في العمل السري وتنظيم خلايا "فتح" هناك. في ذلك الخطاب أعلن عن ترشحه لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، التي ستجري الانتخابات لها بعد شهر من ذلك اليوم.

كانت بيت لحم هي المدينة الثالثة التي انتقلت إلى السيطرة الفلسطينية قبل حلول عيد الميلاد. أثارت زيارة عرفات إلى المدينة حماسا هائلا بين السكان، وحضر قداس منتصف الليل. كانت تلك المرة الأولى التي ينقل فيها التلفزيون الفلسطيني هذا الحفل التقليدي ويبثه إلى كافة أنحاء العالم من كنيسة سانت ــ كاترين ، المتاخمة لكنيسة المهد . ومن فوق سطح دير الأرمن الذي أقيمت عليه المنصة الرسمية، أعلن ياسر عرفات: بيت لحم هي مدينة فلسطينية تحررت إلى الأبد. هذه المدينة التي باركها الله بولادة يسوع الفلسطيني. نحن اليوم نصلي هنا، وفي العام القادم سوف نصلي في كنيسة القيامة في القدس وكذلك في المسجد الأقصى.. إنه يوم تاريخي لفلسطين .

في كانون الأول/ديسمبر 1995، انسحب الجيش الإسرائيلي من رام الله، واستقبلت جماهيرها عرفات استقبال المنتصرين، ونظمت له مراسم الشرف من أفراد الشرطة والقوة البحرية. بعدها بأيام زار قلقيلية وطولكرم، ليختتم بهما حلقة زياراته للمدن التي انتقلت إلى السيطرة الفلسطينية. في الوقت نفسه، أطلقت إسرائيل سراح بضعة آلاف من المعتقلين الفلسطينيين.

و في ربيع 1996، انسحب الجيش الإسرائيلي من القرى والبلدات ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. وفي تلك الأثناء، اتخذت خطوات جديدة لتعزيز أسس سلطة الحكم الذاتي: في 20 كانون الثاني/يناير1996، تم تنظيم انتخابات لمجلس ولرئاسة الحكم الذاتي، كانت اختبارا حقيقيا للديمقراطية الفلسطينية، و أعطت للسلطة الجديدة شرعية انتخابية كانت تنقصها.

انتُخب ياسر عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية وحصل على 1ر88% من أصوات المشاركين في الانتخابات،أما سميحة خليل منافسته فحصلت على 3ر8 %من الأصوات.

جرت الانتخابات الرئاسية في نفس يوم انتخاب الأعضاء الـ 88 للمجلس التشريعي، التي تنافس فيها 700 مرشح. فاز أعضاء "فتح" وأنصارهم المستقلون بـ 68 مقعدا. وأصبح عرفات يتمتع بالأغلبية المريحة في البرلمان الجديد وحققت الانتخابات التشريعية نجاحا مهماً للسلطة الفلسطينية .

حرص الرئيس الفلسطيني على أن تكون الانتخابات نموذجية وأن تجري بلا حوادث. كان عرفات يدرك أن أي شك في صحة النتائج سوف يستخدمه خصومه أفضل استغلال. جاء 660 مراقباً من كل انحاء العالم (من الغرب، والعالم الثالث، بل ومن بلدان عربية مثل مصر والجزائر) لتأمين الرقابة على هذه الانتخابات، وكان يترأسهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر.


عرفات يدلي بصوته في انتخابات 1996


بعد ثلاثة أسابيع، أدى ياسر عرفات في المجلس التشريعي بغزة اليمين الدستورية على نسخة من القرآن الكريم ، كأول رئيس للسلطة الفلسطينية. وانهالت عليه التهاني من كافة أنحاء العالم. رأى بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود المعارض في إسرائيل، في هذه الانتخابات" خطوة نحو إقامة دولة فلسطينية تشكل خطرا على إسرائيل"، بينما هنأ بيريس الرئيس الفلسطيني، وذكّره بالتعهدات التي قطعها بخصوص الميثاق الوطني الفلسطيني، وكان اتُفق معه على أن تُلغى منه البنود التي" تنكر حق إسرائيل في الوجود". ومرة أخرى كان على ياسر عرفات أن يقنع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني بالمصادقة على قرار لتعديل الميثاق.

انعقدت الجلسة الأولى للمجلس التشريعي يوم 7 آذار/مارس 1996 في غزة. دعا عرفات في خطابه الأعضاء إلى التصويت لصالح إلغاء بنود الميثاق التي تتعارض مع اتفاقيات السلام مع إسرائيل "إن لم تصوتوا من أجل تعديل هذا الميثاق، فسوف تضيع على الشعب الفلسطيني كله فرصة تاريخية بسببكم. نحن بصدد إقامة دولة، وتحقيق أحلام الأجيال السابقة. لا نريد العودة مرة أخرى إلى نقطة البداية". كان عرفات في لقاءاته مع أعضاء المجلس يؤكد أن هذه البنود تشكل عبئا كبيرا عليهم، حيث يستغلها المتطرفون الإسرائيليون ليبرهنوا على أن الفلسطينيين لا يريدون السلام حقا.

ولى بيريس في الواقع هذه البادرة أهمية كبرى، لان إلغاء البنود سيؤكد للإسرائيليين انه كان ورابين على صواب في توقيع اتفاقية أوسلو.

في 24 نيسان/أبريل 1996، صوت المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة في دورته الواحدة والعشرين الطارئة، وبالأغلبية الساحقة ــ 504 مؤيدين، 54 معارضا، 14 ممتنعا ــ لصالح إلغاء البنود موضوع الدورة.

وينص القرار على ما يلي: يتم تصحيح الميثاق الوطني الفلسطيني على نحو تلغى معه كافة الفقرات التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة (الاعتراف المتبادل) بين (م.ت.ف) ودولة إسرائيل يومي 9 و10 أيلول 1993. يكلف المجلس الوطني الفلسطيني اللجنة القانونية بإعادة صياغة الميثاق الوطني على أن يقدم الصيغة الجديدة في الدورة القادمة للمجلس .

تأكد بيريس أن ياسر عرفات يفي بوعوده. واعتبر أنه" تعديل ذو مغزى تاريخي، وهو أكبر تحول أيديولوجي في هذا العصر". وفتح الأميركيون بدورهم أبواب البيت الأبيض أمام ياسر عرفات. كانت تلك هي المناسبة الأولى لإجراء مباحثات فلسطينية خاصة مع الرئيس الأميركي كلينتون، طلب خلالها عرفات مساعدة عاجلة لأن الأوضاع كانت متدهورة وخطرة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

إسرائيل تُغير جلدها

بعد شهرين على اغتيال رابين اغتالت إسرائيل يحيى عياش المعروف بـ"المهندس" خبير المتفجرات لدى حماس، وردت حماس بسلسلة عمليات أوقعت ستين قتيلا ومئات الجرحى بين الإسرائيليين .. تدهور الموقف كثيرا وتصاعد غضب الإسرائيليين ليترجم بعد ذلك في الانتخابات العامة يوم 29أيار/مايو 1996. خسر بيريس وفاز بنيامين نتنياهو زعيم الليكود والعدو اللدود لاتفاقيات أوسلو.

شعر عرفات بأنه يخسر شركاء السلام في إسرائيل، وفعلا تغيرت لهجة السلطات الإسرائيلية مع صعود نتنياهو إلى سدة الحكم. بدأت المضايقات والضغوط على عرفات. أصبح عرفات مضطرا لطلب تصريح خاص لطائرته في كل مرة تقلع بها .. وها هو رئيس الوزراء الجديد يتجاهله تقريبا لنحو ثلاثة أشهر، ثمة مؤشرات على أن إسرائيل "قلبت له ظهر المجن"

بعد تدخل من عيزر وايزمن، رئيس إسرائيل، وافق نتنياهو على الاجتماع بعرفات، ولكن الاجتماع الذي عقد يوم 4أيلول/سبتمبر1996في معبر بيت حانون لم يتمخض عنه أية نتيجة جوهرية. وكان نتنياهو قد سبق اجتماعه مع عرفات بإلغاء قرار تجميد الاستيطان المعمول به جزئيا في الأراضي الفلسطينية خلال السنوات الثلاث الماضية.


عرفات أثناء لقائه نتنياهو عام 1996


ولكن نتنياهو اضطر بعد أيام إلى طلب عقد اجتماع مع ياسر عرفات في القاهرة، بسبب تفجر الأوضاع إثر إعلان إسرائيل افتتاح نفق يمر تحت ساحات المسجد الأقصى ليلة 23/24 أيلول/سبتمبر. رأى عرفات والفلسطينيون في افتتاح النفق انتهاكا صارخا وكبيرا لقدسية المسجد الأقصى ضمن مخططات تهويده.. اندلعت تظاهرات احتجاج في القدس تقدمها وزير الشؤون الدينية في حكومة عرفات الشيخ حسن طهبوب الذي تعرض لاعتداء من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وامتدت التظاهرات إلى باقي أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة. وتدخلت قوات الأمن الفلسطينية للرد على نيران قوات الاحتلال الإسرائيلي التي أطلقت على المتظاهرين الفلسطينيين العزل. سقط نحو 80 شهيدا فلسطينيا ومئات الجرحى، وقتل 15 جنديا إسرائيليا وأصيب العشرات.

عقد عرفات اجتماعا ثنائيا مطولا مع نتنياهو يوم 2تشرين الأول/أكتوبر 1996أثناء قمة جمعتهما مع كلينتون ومبارك والملك حسين في شرم الشيخ حيث عقدت القمة لتدارك التدهور على الأرض. وبعد مفاوضات شاقة بين عرفات و رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو جرى توقيع "بروتوكول حول إعادة الانتشار في الخليل" بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل في 15/1/1997 في شرم الشيخ بمصر. ثم وقع عرفات مع نتنياهو اتفاق "واي ريفر" في مؤتمر "واي بلانتيشن" بولاية ميريلاند الأميركية في 23/10/ 1998 لتطبيق أجزاء مما نصت عليه اتفاقية أوسلو.. وهي أول وثيقة يوقعها عرفات مع نتنياهو الذي لجأ إلى المماطلة لسبعة أشهر في مباحثات التنفيذ. وكما حدث معه في المدن التي دخلها بعد الانسحابات الإسرائيلية لقي عرفات استقبالا شعبيا حافلا في الخليل.

واصل نتنياهو توجيه "ضرباته" لاتفاقيات أوسلو. وفي آذار/مارس1997 قرر تنفيذ مشروع استيطاني كبير في جبل أبو غنيم في القدس الشرقية المحتلة، فرد عرفات بإعلان في المجلس التشريعي "الاستيطان هو الإرهاب " ..وتحرك عربيا ودوليا للضغط على إسرائيل .والتقى في هذا الإطار مع الرئيس السوري حافظ الأسد لأول مرة منذ توقيع اتفاقية أوسلو..قام بعدة زيارات واتصالات ..و بطلب من فلسطين عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدورة الاستثنائية العاشرة " الاتحاد من اجل السلام" والتي اتخذت عدة قرارات تندد بالبناء الاستيطاني في القدس وباقي إنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة وتؤكد بطلان كافة الإجراءات التي تتخذها سلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتدعو إلى الوقف الفوري لأعمال البناء الاستيطانية في جبل أبو غنيم.

شكل انعقاد الدورة الاستثنائية بحد ذاته وبما نتج عنها من قرارات نجاحا دبلوماسيا مهما جدا لفلسطين ما زاد من انزعاج نتنياهو.

استغلت إسرائيل تواصل عمليات التفجير التي تنفذها "حماس "و"الجهاد الإسلامي" لتتهم ياسر عرفات بدعم الإرهاب ولتبدأ حملة مبرمجة لتشويه صورته.كان عرفات يدرك تماما أن نتنياهو لا يفي بتعهداته وأن هدفه الوحيد هو تدمير اتفاقيات أوسلو التي أصبحت على وشك الانهيار.رد عرفات ملوحا بأنه يفكر في إعلان الدولة الفلسطينية على كافة أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بعد انقضاء فترة السنوات الخمس التي تنص عليها اتفاقيات أوسلو، أي في 4 أيار/مايو 1999. وهدد نتنياهو بأنه سيعتبر هذه الخطوة انتهاكا صارخا للاتفاقيات وانه سيرد بقسوة.

تدخلت أطراف عدة لإقناع عرفات بعدم إعلان الدولة من جانب واحد.وقبل عرفات بنصيحة كلينتون بتأجيل إعلان الدولة إلى كانون الثاني/يناير في العام 2000.

وبعد مفاوضات شاقة ومطولة مع نتنياهو "المعارض" أصلا لأوسلو وقع عرفات ونتنياهو اتفاق "واي ريفر" في مؤتمر "واي بلانتيشن" بولاية ميريلاند الأميركية الذي عقد ما بين 15 و23 تشرين الأول/أكتوبر 1998 برعاية بيل كلينتون، كان الرئيس الأميركي يأمل في إعادة عملية السلام إلى مجراها. كانت القرارات التي تم تبنيها عبارة عن تطبيق لأجزاء مما نصت عليه اتفاقية أوسلو.

في هذه القمة أظهر أرئيل شارون ـ"وزير البنى التحتية في إسرائيل "حينها بوضوح عداءه لياسر عرفات، تجاهله خلال المؤتمر وخلال العشاء الرسمي، بينما أظهر اهتماما برفيقي عرفات محمود عباس وأحمد قريع.

بعد 3 أسابيع على قمة "واي بلانتيشن"، داست الحكومة الإسرائيلية على الاتفاقيات وصادقت على قرارات بإقامة مستوطنات وفق برنامج يمتد على عدة سنوات، وقررت أن إعادة الانتشار الثالث والأخير لجيشها المحتل، الذي طالما انتظره الرئيس عرفات، لن يتم إلا على 1% من مساحة الضفة الغربية.

في 14 كانون الأول/ديسمبر 1998 بغزة انعقد المجلس الوطني الفلسطيني، ودعي إليه الرئيس كلينتون. واتخذ الحدث بعدا دوليا وتحول إلى مناسبة تخدم القضية الفلسطينية. ازدانت شوارع غزة وغطتها الأعلام الفلسطينية والأميركية، واستُقبل كلينتون في المطار من قبل الرئيس عرفات شخصيا، وبكل المراسم الرسمية التي تليق بالحدث.

ألقى كلينتون خطابه أمام المجلس، وهو الخطاب الأول لرئيس أميركي على الأرض الفلسطينية وقال فيه: "إنني فخور لأنني أول رئيس أميركي يكون هنا بينكم، يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، بينما تعملون على صنع مستقبلكم".

كان كلينتون متفائلا، وعبر عن تعاطفه مع "هذا الشعب الذي يعاني العذاب"، وذكّر"بالأطفال الذين يقبع آباؤهم في السجون أو سقطوا خلال النزاع".

لم تعجب هذه الكلمات نتنياهو فافشل القمة التي عقدت في اليوم التالي في الجانب الإسرائيلي من معبر إيريز بين كلينتون وعرفات ونتنياهو. انزعج نتنياهو كثيرا من إشارة كلينتون إلى عذابات الأطفال، كل الأطفال، بينما بالنسبة له هنالك"أطفال القتلة، وأطفال الضحايا" ولم يتحمل كذلك أن يسمح الحليف الأميركي لنفسه بأن يضع"الكفاح" الذي يخوضه الشعبان على المستوى الأخلاقي ذاته، بينما "لم يصدق عرفات أذنيه" حين سمع الرئيس الأميركي يتحدث عن الفلسطينيين بمثل ما يتحدث عن الإسرائيليين. في آخر ذلك النهار، تم تعديل الميثاق بعد تصويت برفع الأيدي: لم يعترض على التعديل أحد. أعرب عرفات عن سروره وقال" جاء الآن دور نتنياهو لتنفيذ التزاماته."

غادر كلينتون المنطقة، يتملكه الغضب من رئيس الوزراء الإسرائيلي.

في 21 كانون الأول/ديسمير 1998، قرر الكنيست أن يحل نفسه، وحدد يوم 17 أيار/مايو 1999 موعدا للانتخابات. واعتبر عرفات أن من المستحيل أن يأتي من هو أسوأ من نتنياهو .لكن صعد في إسرائيل هذه المرة معارض آخر لأوسلو...إيهود باراك زعيم حزب العمل .

كان باراك قد امتنع دائما عن الالتقاء بياسر عرفات، وخلال حملته الانتخابية لم يتخل لا عن السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس، "العاصمة الموحدة الأبدية لإسرائيل"، ولا عن الاستيطان. غير أن هذا لم يمنع عرفات من تجديد الالتزام بعملية السلام، والمطالبة بالتقيد بالاتفاقيات الموقعة والسعي للتعاون مع هذا الشخص الذي انتخبه الإسرائيليون.

وعلى غرار نتنياهو من قبله، تجنب باراك في الأسابيع الأولى لانتخابه مقابلة الرئيس الفلسطيني، وأعرب عرفات عن استيائه من هذا الموقف للدبلوماسيين الأوروبيين والنواب الإسرائيليين الذين كان يلتقي بهم آنذاك. عُقد اللقاء الأول بين الرجلين في معبر بيت حانون، يوم 11 تموز/يوليو 1999، بعد الانتخابات بشهرين تقريبا.

في الاجتماع الشاق بينهما طالب عرفات بتطبيق اتفاقية "واي بلانتيشن" التي تهرب نتنياهو من تطبيقها، لكن باراك تهرب أيضا بطريقة أخرى: اقترح على عرفات الانتقال فورا لمباحثات المرحلة النهائية الأمر الذي رفضه عرفات. زادت الخلافات بين عرفات وباراك فتوسط كلينتون بينهما. وفي 4 أيلول/سبتمبر 1999، وقع عرفات وباراك بالأحرف الأولى في شرم الشيخ بمصر ما يمكن اعتبارها الاتفاقية الأخيرة لمرحلة انتقالية كان قد تأخر تنفيذها كثيرا. و بعد أن وقع عرفات، أبدى الملاحظة التالية: هذا النظام يسبب لنا الجنون. نوقّع اتفاقا، ونبدأ المباحثات من أجل تطبيقه، وتطول هذه المباحثات إلى ما لا نهاية، ثم نوقّع مذكرة لا يطبق إلا جزء منها، وهكذا دواليك...

شعر عرفات بالضيق من الطريقة التي يتعامل بها الإسرائيليون مع "شريكهم" الفلسطيني في عملية السلام. وفي تشرين الأول /أكتوبر 1999، تلقى عرفات "المحبط من الإسرائيليين" زيارة جاءت مثل بلسم للجرح، وهي زيارة نيلسون مانديلا الذي جاء إلى الأراضي الفلسطينية ليهنئ الشعب الفلسطيني وزعيمه على شجاعتهما. كان في انتظاره استقبال شعبي حار. وفي خطابه أمام المجلس التشريعي في غزة، ذكّر مانديلا بأن عرفات تعرض، مثلما تعرض هو، إلى انتقادات لاختياره المفاوضات والسلام. ولكنه شدد أيضا على أن الحل الوحيد أحيانا يكون بحمل السلاح .


عرفات خلال استقباله مانديلا 1999 في غزة




عشية افتتاح المحادثات حول الاتفاقية ــ الإطار بخصوص التسوية النهائية للنزاع، في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1999 في رام الله، فجر رئيس الوزراء الإسرائيلي قنبلته حول ما اسماه "عدم صلاحية "القرار 242 للتطبيق على الضفة الغربية وقطاع غزة. ثارت ثائرة ياسر عرفات، و اعتبر عرفات أن تصريح باراك لا ينسجم مع اتفاقيات أوسلو، التي تؤكد أن المباحثات الفلسطينية ــ الإسرائيلية تقوم على أساس القرار 242، "إن ما قاله باراك هو كلام خطير: فهو يرفض الشرعية الدولية كأساس للمفاوضات حول الانسحاب من الأراضي المحتلة ."

في أواخر شباط/فبراير 2000، حقق عرفات انجازا دبلوماسيا مهما كان قد عمل كثيرا من أجله: ففي أعقاب لقاء مع البابا يوحنا الثاني في الفاتيكان، وُقعت اتفاقية بين السلطة الوطنية الفلسطينية وبين الكرسي الرسولي توصي بإيجاد حل عادل لمسألة القدس وتنص على أن القرارات أحادية الجانب التي من شأنها تغيير طابعها الخاص مرفوضة على الصعيد الأخلاقي والشرعي. ..إن حلا يستند إلى الشرعية الدولية هو أمر لا بد منه من أجل إحلال السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط .أثارت الاتفاقية حفيظة الحكومة الإسرائيلية فأعلنت رسميا: القدس كانت، ولا تزال، وستبقى للأبد عاصمة لإسرائيل. لن يغير من هذا الواقع أية اتفاقية.


عرفات مع البابا يوحنا الثاني 2000




في الجانب الإسرائيلي، ومع مراوحة المفاوضات مع الفلسطينيين في مكانها، أبلغ باراك عرفات في بداية كانون الأول/ديسمبر 1999، بأن الحكومة الإسرائيلية استأنفت محادثات السلام مع سورية، مؤكدا أن هذه المباحثات لن تكون على حساب المسار الفلسطيني ــ الإسرائيلي غير أن شكوك الرئيس الفلسطيني في نوايا باراك كانت في محلها، فقد أعلن باراك في شباط/فبراير 2000أنه: إذا تم التوصل إلى شيء مع السوريين، فسوف تتأخر المفاوضات مع الفلسطينيين لشهور طويلة.

كان باراك يريد من وراء توقيع اتفاقية سلام مع دمشق إصابة ثلاثة أهداف بحجر واحد: تحييد البلد العربي الوحيد الذي يشكل تهديدا لإسرائيل بما يملك من صواريخ متوسطة المدى وأسلحة كيميائية، والخروج من مصيدة جنوب لبنان، حيث يُقتل الجنود الإسرائيليون بانتظام، واستكمال حلقة السلام مع العالم العربي، لما يعنيه ذلك أيضا من أهمية في أعين المجتمع الدولي.

في الواقع أن باراك لم يكن يرى أن المشكلة الفلسطينية عقدة النزاع العربي ــ الإسرائيلي، بل اعتبر أن السلام مع سورية سوف يرغم عرفات" المعزول "على الرضوخ لمطالبه، وسيكون من شأنه تغيير نظرة الرأي العام الغربي إلى الفلسطينيين.

لكن المفاوضات السورية الإسرائيلية توقفت في ربيع العام 2000. وتوفي الرئيس السوري حافظ الأسد في 10 حزيران/يونيو 2000، لتنتهي بذلك محاولات باراك للالتفاف على عرفات.

وبينما كان باراك يسعى جاهدا إلى التوصل لاتفاق سلام مع سورية، ازداد تدهور علاقاته مع عرفات. التقى الزعيمان في 3 شباط /فبراير 2000 في فاس بالمغرب، وتحول الاجتماع إلى مواجهة. طرحت مسألة الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية، طبقا للاتفاقيات الموقعة، ورفض عرفات الاقتراحات الإسرائيلية، كانت الخرائط التي قدمت في الاجتماع قد أعدت بدون استشارته. ومن جهة أخرى، رفض الإسرائيليون تسليم قرية أبو ديس القريبة من القدس للفلسطينيين. لقد نفد صبر عرفات من عدم تسلم السلطة الفلسطينية سوى مناطق صحراوية وتلال جرداء. طلب من باراك أن يقوم ببادرة صغيرة لإثبات حسن نواياه وهي نقل السيطرة الكاملة على بعض القرى القريبة من القدس إلى السلطة، ولكن باراك رفض. واعتبر عرفات أن باراك أسوأ من نتنياهو..بل وفي عهد باراك، أقيمت وحدات سكنية جديدة داخل المستوطنات أكثر مما أقيم في عهد نتنياهو .

في آذار/مارس 2000، أنجزت إسرائيل أخيرا المرحلة الثانية من إعادة الانتشار وسلمت الفلسطينيين 1ر6% من أراضي الضفة الغربية. ومرة أخرى رُفض طلب عرفات تسليمه بعض القرى القريبة من القدس، بينما راح باراك، مدعوما من كلينتون، يعمل على تنظيم قمة تتيح له فرض أهدافه على الفلسطينيين. ترافق هذا التدهور في العلاقات بين الرجلين مع تدهور من نوع آخر: لقد طفح الكيل في المناطق الفلسطينية ولم يعد في وسع أهلها أن يتحملوا. بلغت الأمور نقطة الغليان في منتصف أيار/مايو، فاندلعت مواجهات بين المتظاهرين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية أثناء الاحتفالات بذكرى النكبة في الضفة الغربية وقطاع غزة سقط ضحيتها خمسة شهداء ومئات الجرحى من الجانب الفلسطيني، وعدد من الجرحى من الجانب الإسرائيلي. كانت تلك هي أعنف مواجهات شهدتها الأراضي المحتلة منذ فتح النفق في أيلول/سبتمبر 1996 وذهب أحد قادة القوات الإسرائيلية، وهو الجنرال شلومو أورين، إلى حد التهديد بإرسال المروحيات القتالية لقصف مقر عرفات في رام الله.


عرفات في مقره في رام الله






كامب ديفيد 2000

في تلك الأثناء، كانت الاتصالات تجري للإعداد للقمة الثلاثية بين عرفات وكلينتون وباراك، برغم تحفظ الرئيس الفلسطيني، الذي كان يخشى المشاركة فيها ويكرر القول أن قمة غير معد لها جيدا سوف يكون نصيبها الفشل، وسوف تؤدي إلى تصعيد خطير.

وفي لقاء مع كلينتون في واشنطن، يوم 15 حزيران/يونيو2000، حذر عرفات الرئيس الأميركي من أية محاولة لفرض حل عليه. وفي هذا السياق قال عرفات معلقا على تأكيدات كلينتون بأن باراك لن يوافق على حق اللاجئين في العودة ولا على السيادة الفلسطينية على القدس: لدي حل..أستقيل، وأغادر الأراضي الفلسطينية لأستقر في القاهرة أو في تونس، وسيكون على باراك أن يسوي الأمور مباشرة مع الشعب الفلسطيني.

وحدد موعد القمة يوم 11 تموز/يوليو2000 في كامب ديفيد بالولايات المتحدة، وبرغم كل تقديراته، لم يكن بوسع الرئيس الفلسطيني رفض دعوة كلينتون، الذي برهن عن دعمه له مرات عديدة منذ 1993، مر عرفات بفترة من الإحباط الشديد. شعر أنه حشر في زاوية، فعقد اجتماعا للقيادة الفلسطينية قبل أربعة أيام من القمة ليحصل على موافقتها على الذهاب إلى كامب ديفيد. وحصل على وعد من كلينتون أمام محمود عباس "أبو مازن" بأنه على كل حال لن يحمله النتائج إذا فشلت القمة.

طوال الأيام الخمسة عشر للقمة، وبرغم" تأنيب" مادلين أولبرايت لباراك وقيامها بلفت نظره مرات عديدة بأنه هو الذي أراد هذه القمة، أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي على تجنب أي لقاء ثنائي مع الرئيس عرفات، وكان يرد بأنه لن يفعل ما لم يوافق عرفات على الأفكار التي اقترحها الرئيس الأميركي.

هذه الأفكار، التي اقترحها كلينتون علنا بعد أيام من افتتاح القمة، كانت قد أعدت في الواقع بالتعاون مع الإسرائيليين .

كان التفاوض، بالنسبة لباراك، يعني قبل كل شيء فرض الاقتراحات، التي كان يتم تناقلها شفويا لان رئيس الوزراء الإسرائيلي منع مساعديه منعا باتا من كتابتها.

كان الوفد الفلسطيني مقتنعا تماما بأن باراك لا يريد السلام، بل يريد حشر عرفات في زاوية لا يستطيع معها إلا رفض سلسلة من الاقتراحات غير المقبولة، مثل إنشاء كنيس في حرم المسجد الأقصى ، ثالث الأماكن الإسلامية المقدسة. ووفقا لهذا الاقتراح، سوف تقسم منطقة الحرم القدسي الشريف أو ما سمي بـ "تلك التلة المقدسة" أفقيا بين المسلمين واليهود، يكون للمسلمين فيها الحرم الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ويكون لليهود المكان الذي يزعمون أنه أساسات المعبد اليهودي القديم.

كان هذا العرض بالنسبة لعرفات دليلا قاطعا على أن باراك يريد نسف القمة، وأن هذه القمة نفسها ليست سوى فخ. رد عرفات قائلا: إنني أرفض التخلي عن أي جزء من الحرم الشريف، حتى مقابل حيفا أو يافا، وأضاف مخاطبا كلينتون: لن أبيع القدس ولن يسجل عليّ التاريخ أنني خائن. هل تريدون قتلي؟ أنا رجل مؤمن ولن أسمح بأن يُسجل عليّ أنني بعت كنائس القدس والحرم الشريف إلى إسرائيل. أنا رجل سلام وأطمح إلى تحقيق السلام والمصالحة التاريخية، وليس إلى إقامة بؤر جديدة للحرائق. الحرم الشريف هو ملك المسلمين منذ بداية الإسلام وحتى يومنا هذا، باستثناء حقبة الصليبيين.

وفي اجتماع آخر له مع كلينتون، قال عرفات محتدا: لن يغفر لي مليار مسلم إذا تخليت عن السيادة التامة على القدس الشرقية. لا أملك أي تفويض بالتخلي عنها. حينئذ رد عليه كلينتون غاضبا: أنت تدفع شعبك وشعوب المنطقة كلها إلى الكارثة ... أنت على وشك فقدان صداقتي. فأجابه عرفات: لن أوقع اتفاقية بدون القدس. أنت تنسق اقتراحاتك مع الإسرائيليين. أما أنا، فيتعين علي أن أنسق مع العرب جميعهم وليس فقط مع الإسرائيليين.

فقال كلينتون: لماذا لا تناقش هذه النقطة مباشرة مع باراك وتجدا حلا لها؟ رد عرفات: ليس لدى باراك غير كلام في الهواء. لم يقترح عليّ شيئا، سوى ضم القدس لإسرائيل.

واستنادا إلى قرار مجلس الأمن 242، طالب عرفات بأن تكون القدس الشرقية المحتلة منذ 1967 كلها تحت السيطرة الفلسطينية، متنازلا عن الحي اليهودي الذي يقع داخل المدينة وعن حائط المبكى. غير أن الاقتراح الإسرائيلي لا يعطي الفلسطينيين سوى الضواحي والقرى المحيطة بالقدس، ونوعا من السلطة البلدية في الأحياء الإسلامية والمسيحية في البلدة القديمة وداخل المدينة. كان باراك يرى أن إسرائيل يجب أن تحتفظ بالسيطرة الكاملة على القدس -الغربية والشرقية- وأن المدينة يجب أن "تبقى" عاصمة دولة إسرائيل فقط . ووفقا لمنطق باراك فإن العاصمة الفلسطينية يجب أن تكون في قرية أبو ديس، جنوبي القدس. ورد عرفات على ذلك بـ "غير مقبول أبدا".

وبخصوص قضية اللاجئين، اعتبر عرفات أن اقتراحات باراك مهينة: لا وجود لأي اعتراف بمسؤولية إسرائيل عن هذه القضية، لا وجود لأية اتفاقية، حتى ولو رمزية، حول حق العودة للاجئين (وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 في كانون الأول 1948). اكتفت إسرائيل، خلال الاجتماعات الثلاثة الأخيرة التي كرست للتفاوض حول هذه المشكلة، بالموافقة على عودة 5000 لاجئ لمرة واحدة، أو 000ر10 لاجئ على مدى عشر سنوات ــ وذلك في إطار اتفاقية سلام، على أن تذكر فيها عبارة " نهاية النزاع" ، وهذا ما رفضه عرفات رفضا قاطعا.

والقضية الأساسية الثالثة تتعلق بالحدود والمستوطنات المقامة على الأراضي المحتلة. اقترح الإسرائيليون على الفلسطينيين تسليمهم 81% من أراضي الضفة الغربية، مقسمة إلى ثلاثة كانتونات دون أي اتصال جغرافي بينها، ومحاطة بمناطق تحت السيادة الإسرائيلية. وفقا لهذا الاقتراح، تسيطر الدولة العبرية على كافة نقاط العبور الحدودية مع الخارج، وكذلك على الفضاء الجوي ومصادر المياه الجوفية في الضفة الغربية. تؤجَر 10% من الضفة الغربية ــ منطقة وادي الأردن ــ إلى إسرائيل لمدة 25 عاما ــ أي للأبد من ناحية فعلية، لأن هذه المنطقة الخصبة جدا سوف تكتظ بالمستوطنات بسرعة. يضاف إلى ذلك 10% من الأراضي الفلسطينية التي تضم ثلاث كتل استيطانية يقيم فيها 80% من المستوطنين سوف تضمها إسرائيل. بالمقابل، تعطي إسرائيل للفلسطينيين أراضي قاحلة، بمعدل 100 متر مربع لكل كيلو متر تضمه.

رفض عرفات التراجع عن الترتيبات الشرعية التي نص عليها القرار 242، فقد اعتبر أنه، باتفاقيات أوسلو عام 1993، قدم الفلسطينيون ما يكفي من التسويات بقبولهم ما نسبته 22% من فلسطين التاريخية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة ، ورفض عرفات التخلي عن أراض جديدة للمستوطنات التي كثفت إسرائيل إقامتها ضاربة بالقوانين الدولية عرض الحائط.

رفض ياسر عرفات اقتراحات كلينتون، الذي قال أنه يحاول من خلالها تقريب وجهات نظر الطرفين.

وفي صباح 25 تموز/يوليو، خيم جو ثقيل على كامب ديفيد. التقى كلينتون بعرفات وباراك، وبعد أن عبر عن أسفه للمأزق التام الذي تواجهه القمة، طلب من الطرفين مواصلة مباحثاتهما من أجل التوصل إلى اتفاق في منتصف أيلول. وافق الطرفان.


عرفات وباراك وكلينتون في قمة كامب ديفيد 2000


و في اجتماع ثنائي عقد بينهما فيما بعد، عبر كلينتون لعرفات عن احترامه لمواقفه الحازمة والثابتة إلا أنه لم يكشف هذا الكلام في أحاديثه العلنية. بل على العكس ،فما أن أنهت القمة أعمالها، حتى راح كلينتون في الواقع يكيل الانتقادات لعرفات، حانثا بوعده بألا يُحمّل عرفات المسؤولية في حال فشل المفاوضات.و في مقابلة مع القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 28 تموز/يوليو، وقف الرئيس الأميركي إلى جانب باراك معتبرا أنه " برهن على شجاعة كبيرة"، وأعلن عن تعزيز التعاون الثنائي مع إسرائيل، بل ذهب حتى إلى الحديث عن إعادة البحث في احتمال نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

أدرك الرئيس الفلسطيني أن الرجل الذي نصّب نفسه حكما محايدا قد "خانه"، ورأى في هذه التصريحات برهانا على أن القمة لم تكن سوى "مؤامرة". وتأكد بأنه كان على صواب برفضه للاقتراحات الإسرائيلية، واطمأن إلى هذه القناعة أكثر حين خرجت مظاهرات التأييد الحاشدة في قطاع غزة والضفة الغربية ومخيمات الشتات، والتي عبّرت عن أضخم دعم شعبي له منذ وصوله إلى غزة وأريحا في 1994. أما باراك، فقد خرج بالنتيجة التي كان قد أعدها سلفا: لا يوجد شريك للإسرائيليين. وحينئذ بدأت حملة يقودها بعض المسئولين الإسرائيليين هدفها البرهنة على أن عرفات لم يكف في كامب ديفيد عن رفض "العروض السخية الإسرائيلية" المزعومة. لم يكن الرأي العام العالمي على هذا القدر من السذاجة لتصديق هذه الادعاءات، أما في إسرائيل فقد أبدى الرأي العام قدرا من التغاضي لدرجة أن معسكر السلام لم يعترض بحزم على رواية باراك. لكن باراك نفسه اعترف في وقت لاحق في مقابلة له مع صحيفة" هآرتس" الإسرائيلية بأنه أراد من كامب ديفيد فقط "كشف القناع "عن وجه عرفات، ووصفه بأنه "عدو السلام ".



انتفاضة الأقصى

بعد فشل قمة كامب ديفيد ضاعفت إسرائيل من حملاتها على ياسر عرفات، ومع ذلك أصر عرفات على مواصلة المفاوضات. وتواصلت فعلا في القدس وتل أبيب دون تسجيل أي تقدم.

وفي هذه الأثناء دخل زعيم الليكود ارئيل شارون مرة أخرى على الخط. قرر زيارة الحرم القدسي الشريف فسارع عرفات إلى تحذير رئيس الوزراء باراك من خطورة السماح بإتمام الزيارة وما قد يترتب عليها من تفجر للأوضاع. لكن نصيحة عرفات لم تلق أذنا صاغية في إسرائيل. نفذ شارون زيارته يوم 28أيلول/سبتمبر تحت حراسة نحو ثلاثة آلاف من قوات الأمن الإسرائيلية. ونجح في استفزاز الفلسطينيين الذين رفضوا الزيارة وخرجوا في تظاهرات واسعة جوبهت بقمع وحشي من القوات الإسرائيلية ما أسفر عن سقوط شهداء وجرحى. وبذلك اندلعت الانتفاضة الشعبية الثانية وليدخل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مرحلة جديدة.

تفاقم العنف واتسع نطاق المواجهات. تدهور الموقف كثيرا، وقدم باراك استقالته من منصب رئيس الوزراء يوم 9كانون الأول/ ديسمبر 2000 بعد أن تدهورت شعبيته إلى الحضيض. لقد فشل في تحقيق السلام مع الفلسطينيين وفشل في قمع ووقف الانتفاضة .


انتفاضة الأقصى 2000




في الوقت ذاته كان الرئيس الأميركي بيل كلينون راغبا في تحقيق "إنجاز" سلمي في الشرق الأوسط قبل مغادرته البيت الأبيض المقررة بعد نحو شهر في كانون الثاني/يناير 2001، ولهذا جمع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ليقدم "اقتراحات جديدة" ،ل كن عرفات رأى فيها نسخة قريبة من المطالب الإسرائيلية خاصة فيما يتعلق بالمسجد الأقصى والقدس، ولم يعجبه الغموض الكبير الذي اكتنفها فرفضها.

وجرت محاولة أكثر جدية للتوصل إلى اتفاق فلسطيني إسرائيلي يوم 21 كانون الثاني/يناير 2001 في محادثات عقدت في طابا التي حققت تقدما لكنها لم تفض إلى نتيجة نهائية. وبعد أسبوعين جرت الانتخابات العامة في إسرائيل يوم 6 شباط/فبراير ليسقط باراك وليصعد إلى سدة الحكم ارئيل شارون .

كان عرفات يدرك تماما من هو شارون..صاحب التاريخ الموغل في دماء الفلسطينيين، ولهذا أعلن استعداده للتعامل مع أي رئيس حكومة يختاره الإسرائيليون حتى لو كان شارون.وفي الوقت ذاته كان عرفات يؤكد لمساعديه وللمسؤولين الفلسطينيين ضرورة الاستعداد لمواجهة احتمال إقدام الجنرال شارون على اجتياح الأراضي الفلسطينية.

بعد توليه الحكم في إسرائيل أعلن شارون في مكالمته الهاتفية الأولى مع ياسر عرفات انه" يجدر التقدم في عملية السلام "ولكنه كان بهذا الشعار يسعى"فقط" لإدخال حزب العمل بزعامة شمعون بيريس في حكومة ائتلاف وطني يستطيع من خلالها تحقيق خطته الحقيقية: زيادة الاستيطان في الأراضي المحتلة ،نسف اتفاقيات أوسلو، تدمير السلطة الفلسطينية وإزالة "عدوه الأكبر"ياسر عرفات.

وعد شارون الإسرائيليين بإنهاء الانتفاضة خلال 100يوم .. اشتد قمع الانتفاضة أكثر وأكثر، وازدادت توغلات القوات الإسرائيلية داخل مناطق السلطة الفلسطينية. استُخدمت الطائرات والدبابات في الاعتداءات الإسرائيلية وفي الرد على العمليات الفلسطينية ، دون أي تمييز بينها ــ سواء قام بها إسلاميون، أو وطنيون، أو منظمات يسارية، وسواء وقعت في إسرائيل أو في المناطق الفلسطينية، وسواء كان القتلى والجرحى من المدنيين أو العسكريين أو المستوطنين ــ ووُصفت جميعها بأعمال إرهابية يديرها عرفات .

كان شارون يدير حملة منهجية لإلصاق صفة الإرهاب بياسر عرفات، وقررت إسرائيل اعتبار السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات" كيانا إرهابيا".ووجد شارون أذنا صاغية جدا لدى الساكن الجديد في البيت الأبيض "الرئيس جورج دبليو بوش"وأقنعه في لقائهما الأول أن "عرفات مفتاح الإرهاب"..فدعا بوش عرفات إلى "التحدث بقوة وعلنا،وبلغة الفلسطينيين،لإدانة العنف والإرهابيين،واعتقال المسؤولين عن الأعمال الإرهابية ".

تجنب الرئيس الأميركي الجديد الالتقاء بعرفات وكان شارون يجد كل الدعم من بوش في مواجهة عرفات ...

ومع ذلك أوفد شارون نجله "عمري" ومسئولين إسرائيليين إلى رام الله للتباحث "سرا "مع عرفات، وفي الجوهر كان شارون ـ وفقا لما قالته صحيفة هآرتس الإسرائيلية ـ مصمما على "استسلام ياسر عرفات بدون شروط".

لم يتوقف التدهور عند حد معين .. واصل شارون بطشه الشديد بالفلسطينيين. وردت التنظيمات الفلسطينية بعمليات واسعة، وكانت إسرائيل تحمل عرفات شخصيا مسؤوليتها رغم إداناته المستمرة لقتل الأبرياء فلسطينيين وإسرائيليين. وزاد تفاقم الموقف بعد اغتيال إسرائيل لزعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"أبو علي مصطفى" يوم 27آب/أغسطس 2001 في مكتبه برام الله لترد الجبهة الشعبية باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي "رحبعام زئيفي" يوم 17تشرين الأول/أكتوبر في فندق بالقدس الشرقية المحتلة.سارعت إسرائيل أيضا إلى تحميل عرفات المسؤولية ووصفه شارون بأنه" بن لادن"إسرائيل مستغلا الأجواء الأميركية و العالمية الجديدة التي خلقتها هجمات تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" في واشنطن يوم 11أيلول/سبتمبر2001.

ومع أن عرفات سارع إلى إدانة الهجمات بأشد العبارات إلا أن الحملة الإسرائيلية لوصمه بالإرهاب كانت تجد أصداء واسعة لدى الإدارة الأميركية،حتى أن بول وولفيتز نائب وزير الدفاع الأميركي قال: إسرائيل هي حاملة طائرات صديقة وعرفات إرهابي معاد،وأعلن نائب الرئيس الأميركي، ديك تشيني، أنه يؤيد قطع العلاقات مع عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية".

كان عرفات يدرك تماما سياسة إسرائيل في استغلال الذرائع ،وكان يقول لرجاله: حتى في حالة الدفاع عن النفس، يجب ألا تعطوا لشارون ذريعة لاستغلال الـمعطيات الجديدة في العالم ضد الفلسطينيين .

ورغم العداء الواضح تجاه عرفات كانت واشنطن تدرك" ضرورة" إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وفي 10 تشرين الثاني/نوفمبر، وأمام الجمعية العامة للأمم الـمتحدة، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش عن تأييده لوجود دولتين تتعايشان جنبا إلى جنب داخل حدود آمنة ومعترف بها، طبقا للقرارات الدولية. مؤكدا أن الولايات الـمتحدة سوف تبذل كل جهدها من أجل عودة الطرفين إلى مائدة الـمفاوضات.

ومع ذلك أصر بوش على تجنب اللقاء بعرفات،الذي كان حاضرا في مقر الأمم الـمتحدة وقت الخطاب، والذي اضطر للاكتفاء بلقاء مع وزير الخارجية الأميركية كولن باول.

وفي اليوم التالي،ألقى عرفات كلـمة فلسطين أمام الجمعية العامة،وأعلن عن وقف إطلاق النار من طرف واحد، مؤكدا أنه سيبذل ما بوسعه من أجل الـمحافظة عليه. وأضاف:إن إقامة دولة فلسطينية مستقلة والقدس عاصمة لها هو صمام الأمان، ودعامة رئيسية للاستقرار في الـمنطقة. وأكد أن الشعب الفلسطيني قد اختار السلام كخيار استراتيجي لا رجعة عنه.لكن دعوات عرفات لم تجد صدى لها عند شارون أو بوش.

"شهيدًا شهيدًا"

شعر شارون بأن المعطيات الأميركية والعالمية الجديدة تعطيه الفرصة. التي يتوجب عليه استغلالهاـ لإكمال مخططه ضد عرفات. فأعلنت إسرائيل يوم 8/12/2001 أن قرار مغادرة الرئيس عرفات لمدينة رام الله خاضع لها وحدها، لتبدأ مرحلة محاصرة الزعيم الفلسطيني في رام الله . وبعد خمسة أيام في 13/12/2001 تحركت آليات عسكرية إسرائيلية بينها دبابات حول مقر الرئيس عرفات، وقرر شارون منعه من الخروج إلى أية مدينة أخرى، وفي ذات الوقت قصفت الطائرات الإسرائيلية مقر الرئاسة في "المنتدى" بغزة .ولأول مرة منذ قيام السلطة الوطنية منع عرفـات من التوجه إلى مدينة بيت لحم لحضور احتفالات عيد الميلاد في 24ـ 25/12/2001.

ثم بدأ حصار مقر عرفـات يأخذ شكلاً تصعيدياً وبدأت الدبابات تقترب من المقاطعة في رام الله ثم تنسحب لتعود إليها بعد ساعات، وظل عرفـات كعادته يستقبل كبار الزوار والوفود الدولية والمساعدين والمواطنين في مقره المحاصر.

وفي 26/3/2002 عقدت القمة العربية في بيروت دون أن يتمكن عرفات من حضورها لأن شارون هدد بأنه لن يسمح له بالعودة إلى الأراضي الفلسطينية .

وأقرت القمة المبادرة السعودية التي أصبحت رسميا المبادرة العربية للسلام والتي تعرب عن الاستعداد العربي لإقامة علاقات عادية مع إسرائيل بعد انسحابها الكامل من الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية. ورد شارون على المبادرة بطريقته الخاصةـ لا سيما وأن الرئيس اللبناني اميل لحود رئيس القمة رفض قيام عرفات بمخاطبة القمة" تلفزيونيا" ـ فبعد سـاعات من انتـهاء القمـة العربيـة وفي 28 آذار/مارس 2002، أمرَ شارون بإطلاق عملية "السور الواقي" في كافة أنحاء الضفة الغربية، وقال: من اليوم فصاعدا، تعتبر إسرائيل عرفات، الذي يترأس منظمة إرهابية، عدوا لها،وأضاف أنه يعتزم عزل عرفات كليا في مقره وملاحقة السلطة الفلسطينية في كل مناطقها،واعداً بأن تكون العمليات على نطاق لا سابق له .

برر شارون قراره في تصريح قصير متلفز، قال فيه: دولة إسرائيل هي الآن في حالة حرب، حرب ضد الإرهاب. إن رئيس السلطة الفلسطينية عدو لإسرائيل وعدو للعالـم الحر. عرفات عقبة أمام السلام في الشرق الأوسط وخطر على استقرار الـمنطقة كلها."

وكان الهدف الأول لهذه العملية الكبيرة : مقر ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية في المقاطعة برام الله. وفي ليلة 28 /29 آذار/مارس 2002، اجتاحت القوات الإسرائيلية مدينة رام الله بالكامل واحتلت كافة مباني الـمقاطعة تقريباً بعد أن هدمت سورها الخارجي. استخدم الجيش الإسرائيلي درعا بشريا من العشرات من سكان الـمدينة ليحمي تقدمه،واستشهد في الساعات الأولى للاجتياح ستة فلسطينيين.

وعند الساعة الخامسة صباح 29آذار/مارس حاصرت القوات الإسرائيلية عرفات ومعه480 شخصا داخل المقاطعة وبدأ الجنود والآليات العسكرية لجيش الاحتلال بإطلاق النار والقذائف في جميع الاتجاهات ، وأكد شارون أن العملية ضد عرفات ستستمر .


الاحتلال يهدم ويحاصر مقر عرفات 2002


ومن مقره المحاصر و الذي قطعت عنه الـماء والكهرباء، قال عرفات معلقاً: هذا هو الرد الإسرائيلي على القمة العربية التي تبنت مشروع سلام. إسرائيل تريدني سجينا، أو قتيلا أو أسيرا. أقول لهم: لا، سأكون شهيدا، شهيدا، شهيدا! ... هل حياتي أغلى من حياة مواطن فلسطيني بسيط، أو من حياة طفل فلسطيني؟ ووجّه نداءً إلى الشعوب العربية والإسلامية وإلى كل الـمسيحيين في العالـم أجمع قال فيه: يجب الدفاع عن الأرض الـمقدسة!

وفي اليوم التالي هددت القوات الإسرائيلية عبر مكبرات الصوت بقصف المقاطعة إذا لم يسلم "الـمطلوبون داخل الـمقر أنفسهم خلال ربع ساعة."

أطلقت الدبابات الإسرائيلية النار من وقت لآخر على مباني الـمقاطعة، وفجأة وسط هدير مروحيات الأباتشي، انهمرت القذائف وزخات الرصاص على مقر عرفات بغزارة، غير أنه خرج سالـماً، بينما جرح ثلاثة من حراسه، كانوا في غرفة مجاورة.

وقال آرئيل شارون:" أريد أن أقول لكم أنه في هذه اللحظات تتواجد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في مقر المقاطعة مركز سلطة عرفات في رام الله، إسرائيل ستعمل على إخضاع المسئول عن الإرهاب الفلسطيني، عرفات الذي شكل ائتلافا إرهابيا ضد إسرائيل هو عدو وفي هذه المرحلة سيتم عزله."

عاش عرفات ظروفا صعبة داخل المقر المحاصر، طلقات وقذائف بين الحين والآخر..تشويش مستمر وانقطاع للماء والكهرباء ونقص في الغذاء وحتى نقص في الهواء بسبب الاكتظاظ.

أصر عرفات على ألا يميزوه عن باقي المحاصرين معه بشيء: كان ينام كما ينام الآخرون ..على فرشة خفيفة تفرش على الأرض مباشرة. وفي اليوم العاشر فقط سمح الجيش الإسرائيلي للهلال الأحمر الفلسطيني بإدخال أول دفعة غذاء.


عرفات أثناء الحصار في مقره في رام الله




و حرص الـمقربون من عرفات على أن يتناول الرئيس خضارا لأسباب طبية، وتمكنوا من الحصول على أدويته الضرورية. بعد ثلاثة أسابيع من بداية الحصار خضع عرفات لفحص طبي على يد طبيبه الخاص، الدكتور أشرف الكردي، الذي جاء برفقة وزير الخارجية الأردني مروان الـمعشر لزيارة عرفات. وبعد إجراء فحص كامل، أكد أن عرفات، الذي نحف مثله مثل الآخرين، بصحة جيدة ومعنوياته مرتفعة جدا، وأن جهازه العصبي يعمل جيدا، رغم ما يعانيه من نقص في النوم. وأضاف الطبيب: يمكن لصحة الرئيس أن تتدهور، بسبب نقص الأوكسجين في الـمبنى الـمغلق .

كان شارون يسمح بزيارة الرئيس في الحالات النادرة. وهكذا، بطلب من الـمبعوث الأميركي أنتوني زيني، تمكن عدد من مساعدي عرفات من الدخول إلى الـمقاطعة، وكذلك الأمر بالنسبة لـميغيل أنخيل موراتينوس المبعوث الأوروبي لعملية السلام وخافيير سولانا المفوض الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي .

في 17 /4/2002 ، اجتمع كولن باول وزير الخارجية الأميركي مع عرفات داخل مقره المحاصر لـمدة ثلاث ساعات لـم تسفر، وفق ما صرح به عرفات نفسه، عن أي مخرج للنزاع. غير أن عرفات أكد لباول، وبكلـمات شديدة الوضوح، أنه في حال اقتحام الإسرائيليين للـمقر فسيموت شهيداً ولن يسمح لهم باعتقاله أو طرده. عُـقد اجتماع آخر بينهما بعد ثلاثة أيام،وانتهى بلا نتيجة هو الآخر. غضب عرفات، وقال للمقربين منه: باول يتحدث معي كأنه مبعوث لشارون. أمن، أمن... لإسرائيل بالطبع. أنا هنا محاصر، والـمناطق الفلسطينية كلها مطوقة وتتعرض لهجوم. رجال ونساء يقتلون يوميا، وجيش الاحتلال يدمر ويخرب. ولا يتحدثون إلا عن أمن إسرائيل! .


عرفات وكولن باول في رام الله 2002




وغداة هذا اللقاء، وصف بوش رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه "رجل سلام"، متهماً عرفات بأنه الـمسؤول الوحيد عن الوضع الذي هو فيه.

أما في العالـم العربي، فقد ارتفعت مكانة عرفات بشكل كبير بسبب العزل والحصار الذي فرضه عليه شارون، كما كان الحال أثناء حصاره في بيروت وفي طرابلس. ووصفه صحافي مصري بارز بأنه "شهيد لا يزال على قيد الحياة." وتضاعفت مظاهرات التأييد له من الـمغرب حتى العراق . وفي الجانب الفلسطيني ارتفعت شعبيته مجددا إلى أعلى المستويات و سانده الجميع، بدءاً من الشيخ أحمد ياسين إلى الـمعارضين اليساريين. حتى أن إدوارد سعيد، الذي ابتعد كثيرا عن عرفات وجافاه لـمدة طويلة، قال : في هذه اللحظة، نحن جميعا وراء عرفات.


عرفات والشيخ احمد ياسين




واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي تدمير الـمباني داخل الـمقاطعة. وعبر مجلس الأمن الدولي التابع للأمم الـمتحدة عن قلقه الشديد على سلامة الرئيس عرفات. ولكن في اليوم نفسه، أقام الجيش الإسرائيلي حول مقر الرئيس سياجا ثلاثيا من الأسلاك الشائكة، وعززه بجدار من حطام السيارات والأنقاض وأكياس الرمل. وأحاطت الدبابات الإسرائيلية بالـمبنيين (الـمتصلين ببعضهما بجسر) حيث يوجد الـمحاصرون، مصوبة مدافعها إلى نوافذهما. في ذلك الوقت، ناشد وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، الإدارة الأميركية أن تعمل على رفع الحصار.

وكبادرة لحسن النية، بعث عرفات برسالة إلى الحكومة الأميركية يقول فيها أن الأشخاص الـمطلوبين لإسرائيل بقضية مقتل رحبعام زئيف سيجري التحقيق معهم وتقديمهم للـمحاكمة في رام الله. وفي اليوم ذاته، اعتقلت قوى الأمن الفلسطينية الـمشتبه بهم ونقلوا من نابلس إلى رام الله، بتنسيق وثيق مع الاتحاد الأوروبي والولايات الـمتحدة. جرت الـمحاكمة في الـمقاطعة أمام ثلاثة ضباط من الـمحكمة العسكرية الفلسطينية، وحُكم الـمتهمون الثلاثة بالحبس لـمدة ثمانية عشر عاما لـمشاركتهم في الـمسؤولية عن مقتل الوزير الإسرائيلي. كانت محاكمة هؤلاء الرجال هي أحد الشروط التي فرضها شارون لرفع الحصار عن الـمقاطعة. ومع ذلك عمدت إسرائيل إلى تجاهل الـمحاكمة في رام الله وما لبثت أن طالبت بتسليمها الـمتهمين لتقديمهم إلى الـمحاكمة في إسرائيل.


المحاكمة التي عقدت في المقاطعة لمنفي عملية مقتل زئايفي الوزير الاسرائيلي




وبعد ضغوط من ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز طلب الرئيس الأميركي جورج بوش من شارون رفع الحصار عن عرفات لكن شارون ماطل واضطر للاستجابة بعد تهديد مستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليزا رايس لشارون بعواقب رفض طلب بوش، فانسحب جيش الاحتلال من المقاطعة ليلة 1 /2 ايار/مايو 2002 بعد تفجير آخر مبنى فيها. ووصف عرفات حينها جنود الاحتلال بأنهم "ارهابيون " و"نازيون".

لم يكن رفع الحصار كاملا فقد حظر شارون على عرفات مغادرة الأراضي الفلسطينية إلا إذا قرر عدم العودة اليها.

وبعد شهر تقريبا اجتاح الجيش الإسرائيلي رام الله مجددا إثر عملية "مجدو" التي تبنتها حركة" الجهاد "يوم 5حزيران/يونيو 2002 وهاجم الجيش الإسرائيلي مقر عرفات بوحشية، ولم تسلم من الرصاص غرفة عرفات الذي لم يصب بأذى لكن أحد حراسه استشهد وأصيب سبعة آخرون .

كانت ضغوط شارون على عرفات تتم بمعرفة بوش وفريق الصقور في إدارته :نائبه ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفيتز. وهكذا وجد عرفات نفسه يوم 24 من نفس الشهر أمام حرب صريحة من بوش عليه: فقد طلب بوش في خطابه في ذلك اليوم تشكيل قيادة فلسطينية جديدة ومختلفة. ما فسره المراقبون على انه دعوة إلى رحيل عرفات عن منصبه. وجاء رد عرفات في اليوم التالي "الفلسطينيون وحدهم" هم أصحاب الحق في اختيار قادتهم .

لم يكن العالم يشارك شارون وبوش وجهة نظرهما بشان عرفات وبعد يومين من خطاب بوش، وفي قمة مجموعة الثماني الكبار في كندا قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك: عرفات انتخب ديمقراطيا من قبل الشعب الفلسطيني والذي يعود إليه وحده اختيار ممثليه.

كذلك رفض الأوروبيون واليابان والأمم المتحدة الموقف الأميركي من عرفات، وقال الرئيس المصري حسني مبارك: عرفات هو الوحيد الذي يتمتع بدعم الشعب الفلسطيني وبدون عرفات لن تتقدم عملية السلام، وإن تنحيته ستخلق الفوضى.

وعلى الأرض تدهورت الأوضاع أكثر، وأفشل شارون بزيادته لعنف وحجم ووحشية العمليات العسكرية مساعي عرفات على الجانب الفلسطيني لإعلان وقف للنار من جانب واحد. وفي19 أيلول/سبتمبر 2002 وللمرة الثالثة احتل الجيش الإسرائيلي المقاطعة لمدة ستة أيام وقصف مبنى الرئيس بالمدفعية. زادت إسرائيل من ضغوطها وطلبت من عرفات تسليم 20 من" المطلوبين" لها والذين كانوا داخل المقاطعة فرفض عرفات، أصدر قائد القوة المحاصرة للمقاطعة أمرا بإخلاء المقر فورا محذرا بأن انفجارا هائلا سيقع في المقاطعة، وطلب من سكان المنطقة المحيطة بالمقاطعة مغادرة بيوتهم. وفجأة انفجر غضب المواطنين وتحدى الآلاف من سكان رام الله والبيرة ومخيمات وقرى المنطقة حظر التجول وتوجهوا في تظاهرات حاشدة نحو مقر عرفات، فتحت قوات الاحتلال نيرانها فقتلت اثنين من المتظاهرين وجرحت العشرات، واصل المتظاهرون طريقهم وهم يهتفون تأييدا لعرفات. وانتشرت التظاهرات ليخرج عشرات آلاف في مدن الضفة الغربية وقطاع غزة دعما للرئيس المحاصر والصامد. وامتدت التظاهرات إلى خارج الأرض المحتلة خاصة في مخيمات اللجوء في لبنان. خرج عرفات لتحية الجماهير أمام مقره المدمر وقادهم في هتافه"على القدس رايحين شهداء بالملايين.


عرفات يستقبل الجماهير التي كسرت الحصار 2002






إسرائيل :كيف نتخلص من عرفات؟

شهد عام 2003 تزايد ضغوط شارون على عرفات أيضا، على أمل أن ينكسر الزعيم الفلسطيني، فيستقيل أو يغادر البلاد.

وكانت العبارة ذاتها تتكرر بعد كل عملية تقع في إسرائيل: رئيس السلطة الفلسطينية هو المسئول، ولا بد من تنحيته عن الـمسرح السياسي. أما عرفات فقد اختار أن يبقى في الـمقاطعة التي دمرت معظمها، خوفاً من أن يستغل الجيش الإسرائيلي غيابه ليحتل الـمبنى، ويعتقل مَن فيه، وينهب وثائقه، بل وربما يدمّر ما تبقى منه. ومارس عرفات عمله في مكتب سيئ التهوية، وقد استحال عليه الخروج منه إلى الباحة الخارجية. اضطر الـمجلس التشريعي إلى عقد اجتماعاته في الـمقاطعة، وليس في مقرّه الرسمي في رام الله، الذي لـم يُصب بأذى، لكي يتمكن عرفات من حضور جلساته.

كانت الظروف القاسية التي عاشها عرفات في المقاطعة قد تركت عواقبها على صحة الزعيم الفلسطيني، ففي تشرين الأول/اكتوبر أُصيب بالتهاب في الـمعدة، شفي منه بسرعة، ولكن التكهنات الإسرائيلية بقرب نهايته تواترت: في تشرين الثاني/نوفمبر 2002، توقع رئيس الـموساد الـمستقيل إفرايم هاليفي" اختفاء عرفات " بطريقة أو بأخرى "عن الـمسرح خلال عام 2003 . و توقع الرجل الأول في الـمخابرات العسكرية الإسرائيلية أن "يتبخّر" عرفات قبل نهاية عام 2003، كان الفلسطينيون يعرفون أن الإسرائيليين يريدون التخلص من عرفات. وكان شارون أقدم في أيلول/سبتمبر 2002 على خطوة ذات مغزى خاص تمثلت في تعيين الجنرال الاحتياط الرهيب" مائير داغان" رئيساً للـموساد. وهو أخصائي في "التصفيات"، قاد منذ 1970 وحدة الكوماندوس الخاصة "ريمون"، التي وضعت تحت إشراف شارون ــ قائد الـمنطقة الجنوبية للبلاد في ذلك الوقت ــ وهي وحدة مكلفة باغتيال الفلسطينيين"الـمطلوبين بتهمة الإرهاب".

تزايد التدهور في الـمناطق الفلسطينية بسبب الإجراءات التعسفية التي فرضها الجيش الإسرائيلي على السكان الـمدنيين بعد أن كانت القوات الإسرائيلية قد أعادت احتلال الضفة الغربية، وبدأت سلسلة من التوغلات العسكرية الـمنتظمة في قطاع غزة. وواصلت الحكومة سياسة توسيع الـمستوطنات وبناء الجدار الذي يضم بحكم الأمر الواقع مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل، ويعزل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية .

وفي نفس الوقت شنت إسرائيل وواشنطن حملة مكثفة لفرض تغييرات سمتها "إصلاحات" على السلطة الفلسطينية تتضمن إقصاء عرفات فعليا. ومن هذه الإصلاحات استحداث منصب رئيس وزراء تعود إليه مسؤولية الأمن. وتحويل عرفات بموجب هذه الإصلاحات إلى رئيس بدون صلاحيات، وتحويل السلطات الحقيقية إلى رئيس الوزراء. واتهمت إسرائيل عرفات باستخدام أموال الدعم الأوروبي وهي الأكبر من بين معونات الدول الـمانحة، لشراء أسلحة والإنفاق على مجموعات إرهابية لكن الاتحاد الأوروبي أعلن" بعد إجراء تحقيق نزيه:"لـم نجد أي دليل على أن أموال الاتحاد الأوروبي قد استخدمت لأغراض غير تلك التي اتفق حولها الاتحاد الأوروبي مع السلطة الفلسطينية

لـم يكن استحداث منصب رئيس وزراء مطلباً أميركياً فقط، بل إن اللجنة الـمركزية لحركة "فتح" كانت قد طرحته في اجتماعها يوم 8 آب/أغسطس2002 برئاسة عرفات، واقترحت تعيين محمود عباس "أبو مازن" لهذا الـمنصب.


عرفات وابو مازن بعد تعيين الاخير رئيسا للوزراء 2002




وفي إسرائيل ازدادت الأزمة السياسية الداخلية تفاقماً، فتم حل الكنيست وتقرر تنظيم انتخابات جديدة.

وافتتح نتنياهو الحملة الانتخابية الداخلية في حزب الليكود في 12 كانون الثاني/يناير 2003 بخطاب طرح فيه مجددا مسألة طرد عرفات: "لن يتحقق السلام إلا إذا تم إبعاد عرفات، إذا انتُخبتُ رئيسا للوزراء فسوف أطرده. إن هذا شرط لا غنى عنه للقضاء على الإرهاب في اليوم التالي، عقد عرفات مؤتمرا صحافيا للرد عليه، وقال فيه: ليكن في علـمه: أنا ياسر عرفات، من بيت الحسيني، وهي أسرة والدي، ووالد والدي، ووالد والد والدي، وأجدادي الأولين. وجميعهم، جيلا بعد جيل، هم من أهل هذه البلاد..أنا هنا على أرضي، وعلى أرض أجدادي."

ودعا الحزب القومي الديني الإسرائيلي، الأكثر قومية وتطرفا في معسكر الـمتدينين، في حملته الانتخابية إلى طرد عرفات: سوف ترتاح إسرائيل في اليوم الذي يُبعد فيه عرفات وتنافست لوائح الـمهاجرين الروس فيما بينها في طرح الحجج الداعية لطرد الزعيم الفلسطيني.

وحين عاود شارون هجومه على عرفات في حملته الانتخابية واصفا إياه مرة أخرى بـ "بن لادن"، قرر الزعيم الفلسطيني توضيح موقفه مرة أخرى في هذا الخصوص، فقال: ليكف عن تستره وراء القضية الفلسطينية. ما الذي يدعو بن لادن لأن يتحدث الآن عن فلسطين؟ إنه لـم يساعدنا في يوم من الأيام ..إن بن لادن ينشط في ميدان مختلف تماما عن ميداننا وهو يعمل ضد مصالحنا.

وفي 28 كانون الثاني/يناير 2003، فاز حزب الليكود بقيادة شارون في الانتخابات وكرر عرفات استعداده ، للقاء شارون لكن الناطق الرسمي باسم الحكومة الإسرائيلية رد قائلاً: عرفات هو خارج اللعبة ..

تواصلت الهجمات والعمليات العسكرية من كلا الجانبين موقعة مزيدا من الضحايا الـمدنيين، وذلك رغم نداءات عرفات، الذي كان يدرك أن تصاعد العنف يخدم قضية الليكود، ويخشى، من تجذر الرأي العام المعادي للسلام في إسرائيل.

وفي 10 آذار/مارس 2003 وافق الـمجلس التشريعي الفلسطيني بأغلبية كبيرة على استحداث منصب رئيس الوزراء. قبل ذلك بيومين، كان الـمجلس الـمركزي لـمنظمة التحرير قد أعطى موافقته. اقترح عرفات محمود عباس لرئاسة الحكومة مع احتفاظ عرفات بالـمسؤولية عن قوى الأمن الأساسية، وكذلك عن ملف مفاوضات السلام مع إسرائيل، وأحال مسؤولية الـمالية في السلطة إلى الدكتور سلام فياض.

ومع ذلك، عبر وزير الخارجية الأميركي كولن باول عن خيبته قائلا: العديد من السلطات ما زالت بين يدي عرفات.

في هذا الوقت انشغلت الولايات الـمتحدة بالحرب على العراق والتي بدأت في 20 آذار/مارس 2003.

واتخذ الرئيس الفلسطيني الـموقف ذاته الذي اتخذه العرب من الحرب ووصفها بأنها انتهاك للشرعية الدولية وزعزعة لـمصداقية الأمم الـمتحدة.

في 23 نيسان/أبريل توصل عرفات مع محمود عباس إلى اتفاق حول تأليف الحكومة. وقال المبعوث الأوروبي ميغيل انخيل موراتينوس:" عرفات هو السلطة السياسية والـمعنوية للشعب الفلسطيني، ومن الـمؤكد أن قرار الـموافقة على تأليف حكومة جديدة الذي اتخذه عرفات لا يشكل هزيمة له ... لا يمكننا القول انه رجل من الـماضي".

وإذ ذاك أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش، باسم اللجنة الرباعية الدولية، عن "خارطة الطريق"، التي تنص على إقامة دولة فلسطينية على مراحل، تكتمل في العام 2005. وافق عليها عرفات وحكومته بخطوطها العريضة، وفعلت الحكومة الإسرائيلية الشيء ذاته ولكن بشروط وتحفظات تنسفها.

في 4 حزيران/يونيو، اجتمع" أبو مازن" وشارون وجورج بوش والـملك عبد الله الثاني عاهل الأردن في العقبة. كان ياسر عرفات يتابع الحدث على شاشة التلفزيون من الـمقاطعة، وسمع خطاب أبو مازن الذي جرت عليه تعديلات كثيرة من قبل مختلف الـمعاونين، وكان موجها بالأساس إلى الأميركيين والإسرائيليين: ما من كلـمة واحدة عن عرفات، الـمستثنى والـمعزول. ما من كلـمة واحدة عن مسألة اللاجئين. ما من كلـمة واحدة عن القدس. بالـمقابل، دعا أبو مازن الفلسطينيين إلى إنهاء الانتفاضة الـمسلحة، مؤكدا أن السلطة الفلسطينية اتخذت لنفسها هدفا واضحا وهي تسعى لتحقيقه بحزم وبلا تهاون: الإنهاء التام للعنف والإرهاب.

واختار عرفات أن يدافع عن رئيس وزرائه وركز كل انتقاداته على خطاب شارون وحده، الذي لـم يقدم برأيه تنازلات حقيقية، ووقف عرفات في وجه أعضاء "فتح" الذين انتقدوا خطاب محمود عباس .

انتهز شارون التطورات السياسية الفلسطينية الداخلية ليعاود هجومه على عرفات من زاوية مختلفة هذه الـمرة. فقد ادعى أن رئيس الوزراء الفلسطيني لا يستطيع العمل بهدوء، وأن جهوده تتعرض للتخريب، وأن عرفات لا يزال العقبة الرئيسية "قبل ألإسلاميين ــ على حد تعبير شارون ــ أمام كل محاولة للسلام...

وقال أحد الـمقربين من شارون : أبلغنا الأميركيين أنه إذا استمر عرفات في إضعاف محمود عباس، فإن إسرائيل ستضطر إلى إعادة النظر في وضعه. وهكذا عادت التهديدات بطرد أو إزالة الرئيس عرفات إلى الواجهة مرة أخرى .

وعندما أراد عرفات التوجه من رام الله إلى غزة للمشاركة في تشييع شقيقته يسرى التي توفيت في آب/أغسطس 2003 أعلنت إسرائيل أنها لن تسمح له بالعودة من غزة إلى الضفة الغربية، فامتنع عرفات عن مغادرة رام الله ولم يشارك في جنازة شقيقته. وبدا واضحا أن إسرائيل تواصل استهداف عرفات شخصيا .

تفاقم التصعيد الإسرائيلي على نحو خطير: وفي 6 تشرين الثاني/نوفمبر2003، أفلت الشيخ أحمد ياسين بأعجوبة من قصف إسرائيلي على غزة. وطفح الكيل بمحمود عباس من الممارسات الإسرائيلية، فقدم استقالته في اليوم ذاته ووافق عليها عرفات ليخلفه في الـمنصب أحمد قريع (أبو علاء(.


عرفات وأبو علاء قريع بعد تعيين الأخير رئيس للوزراء




كانت إسرائيل قد أعلنت أن حكومتها الأمنية المصغرة وافقت يوم 13 أيلول /سبتمبر مبدئيا على قرار "إزالة عرفات". كانت تلك الـمرة الأولى التي تقرر فيها حكومة" إزالة"رئيس منتخب ديمقراطيا ،وأثار القرار شجبا دوليا واسعا وتسبّب في "عزلة دبلوماسية" لإسرائيل.

واستخدم الأميركيون حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن على قرار يدين القرار الإسرائيلي، غير أن الجمعية العامة للأمم الـمتحدة أدانت إسرائيل بالإجماع تقريبا، ودعت إسرائيل للعدول عن تنفيذ قرارها.

وكان نائب رئيس الوزراء إيهود أولـمرت، صديق شارون وموضع ثقته صرح في وقت سابق "لـم يكن مستبعدا قتل عرفات". الشيء ذاته أكدته بلا تردد الصحيفة اليمينية "جيروزالـم بوست"، الـمقربة جدا من الحكومة، حيث جاء في افتتاحية لها يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2003: يجب أن نقتل ياسر عرفات، لأن العالـم لـم يدع لنا خيارا آخر".

إثر صدور قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي، كشفت صحيفة" يديعوت أحرونوت "الإسرائيلية عن خطة إزالة عرفات و نسبتها إلى ضابط إسرائيلي .

وحين قرأ ياسر عرفات ترجمة المنشور عن خطط "إزالته"، تصرف بهدوء. وقال للصحافي الإسرائيلي الفرنسي اليهودي أمنون كابليوك: "دعهم يحيكون مؤامراتهم. أما أنا فسوف أكون حراً أو شهيداً."

خلال الأسبوع الأول من آذار/مارس 2004 حاصرت قوات الاحتلال المقاطعة مرتين في الوقت الذي كان فيه شارون يعد خطة الانفصال عن غزة وكان يتباحث مع الأميركيين بشأنها، وكانت قوات الاحتلال تنفذ هجمات واسعة خاصة في قطاع غزة ما أسفر عن سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى ،فطالب عرفات يوم 11من الشهر نفسه اللجنة الرباعية الدولية بالتدخل" لوقف الجرائم الإسرائيلية التي لا يمكن القبول بها ".لكن إسرائيل ردت باغتيال مؤسس وزعيم حماس الشيخ أحمد ياسين يوم 22آذار/مارس ،وأكد عرفات بعد ذلك أن الشعب الفلسطيني لن يتخلى ولن يتراجع عن أهدافه ، فطالب في اليوم ذاته رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست يوفال شتيانتيس بطرد ياسر عرفات إلى تونس.وفي اليوم التالي ألمح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال موشي يعلون إلى أن الاغتيال يقترب من ياسر عرفات .

كان عرفات يواصل عمله ونشاطه في مقره بالمقاطعة. يستقبل ويودع الزوار والوفود: ويعقد الاجتماعات مع مسؤولين ومساعدين. بقي عرفات محور العمل السياسي الفلسطيني ولم تنجح كل محاولات إسرائيل لعزله.

وبدأت "الحرب الصحية" تتصاعد على الرئيس ياسر عرفات يوم 4 نيسان/أبريل حيث نقلت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي نبأ عاجلا مفاده أن الرئيس عرفات أصيب بجلطة دماغية، بينما كان في الواقع يقوم بعمله بشكل طبيعي في المقاطعة في رام الله. وقال صحافي أجنبي وقتها انه رصد خلال الأشهر الخمسة التي سبقت 10 تقارير صحافية عن تدهور صحة عرفات، و عندما تحقق من مصادرها وجدها جميعا إسرائيلية الأصل .. وبالطبع كانت كلها عارية عن الصحة وبلا أساس

في يوم 7نيسان/ابريل قال رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع في تصريحات في القاهرة انه يجب التعامل بجدية مع التهديدات الإسرائيلية باغتيال عرفات بعد أن كان شارون صرح قبل يومين على ذلك بأنه لا يضمن سلامة عرفات. وجاءت الإشارة القوية يوم 14/4/ 2004 حين أخبر شارون الرئيس الأميركي جورج بوش. حسب الكاتب الإسرائيلي "اوري دان" وهو أحد مقربي ارئيل شارون ومؤتمن أسراره ـ بأنه لم يعد ملزما أكثر بالوعد الذي قطعه له حسب طلبه في آذار/مارس 2001 والذي تعهد فيه بعدم المس جسديا بعرفات، فرد عليه بوش وقال: من الأفضل أن نترك مصير الرجل في يد رب السماء ، فقال له شارون : رب السماء يحتاج في بعض الأوقات إلى مساعدة .

لم يعط بوش لشارون الضوء الأخضر لقتل ياسر عرفات، لكن شارون اعتبر أن يده باتت طليقة فيما يتعلق بعرفات. وفي ذلك اليوم 14/4/ 2004 أعطى بوش لشارون ما اعتبره البعض "وعد بوش" على غرار "وعد بلفور" ...فقد وجه بوش رسالة إلى شارون أعلن فيها موافقته على خطة الانسحاب الأحادي من غزة، وأعطى بوش " شرعية" في خطابه للتجمعات الاستيطانية وتبنى اللاءات الإسرائيلية بشان حق العودة للاجئين الفلسطينيين وحدود الرابع من حزيران الأمر الذي رفضه ياسر عرفات.

وبعد اغتيال إسرائيل للزعيم الجديد لحركة حماس عبد العزيز الرنتيسي في 17/4/2004 بستة أيام وجّه شارون تهديداً جديداً إلى عرفات، معتبراً أن الرئيس لـم يعد يتمتع بأية "حصانة".

وقال شارون "وعدت قبل ثلاث سنوات الرئيس الأميركي جورج بوش بعدم المساس بعرفات، إلا أنني لـم أعد ملزماً بهذا الوعد، والأخير لـم يعد يستفيد من أية حصانة".

ونقل عن شارون قوله في الـمقابلة إنه أبلغ بوش بأنه لـم يعد ملتزماً بتعهده بعدم إيذاء عرفات جسدياً، وبأنه يدرك الـمشاكل الـمتعلقة بهذه الـمسألة، لكنه لـم يعد ملزماً بالاتفاق.

وكان شارون أعلن في الثاني من الشهر نفسه في مقابلة مع صحيفة هآرتس "أنا لا أنصح أية شركة تأمين بضمان حياة عرفات".

وبعد ثلاثة أيام، قال شارون في تهديد أكثر مباشرة "إن جميع الذين يقتلون يهوداً أو يحثون على قتل يهود أو مواطنين إسرائيليين يستحقون الـموت .. نعلـم أن عرفات مسؤول عن قتل يهود منذ عقود".

وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن الـموقف الأميركي الـمعارض لاستخدام العنف ضد عرفات لـم يتغير.

وأكدت واشنطن مرارا معارضتها لأي تهديد لحياة عرفات على الرغم من أن الولايات الـمتحدة من أنصار تهميشه داخل السلطة الفلسطينية.

وبهذا الصدد، قال نبيل أبو ردينه، الناطق باسم عرفات،"إنها تصريحات مرفوضة ونحن نطلب من الإدارة الأميركية توضيح موقفها من هذه التصريحات الخطيرة وتحمل مسؤولياتها تجاه التصعيد الذي يمارسه رئيس الوزراء الإسرائيلي ويدفع الـمنطقة إليه". وأضاف"نحمل شارون الـمسؤولية الكاملة عن هذه التصريحات الخطيرة التي ستجر المنطقة بأكملها إلى مخاطر كبيرة".ورأى المسؤولون الفلسطينيون أن تهديدات شارون الأخيرة هي الأخطر من بين سلسلة من التهديدات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي ضد الرئيس عرفات، معتبرين أن إقدام الحكومة الإسرائيلية على اغتيال قادة بارزين من حركة حماس فضلا عن الضوء الأميركي الممنوح لشارون وانشغال الولايات المتحدة بمشاكلها في العراق وحالة العجز العربي قد تدفع شارون لارتكاب هذه المخاطرة، الجريمة الكبرى.

وخفف مسئولون إسرائيليون من "حدة" هذه التهديدات بالتأكيد على أن المس بالرئيس عرفات ليس آنيا أو قريبا جدا، إلا أن مصادر إسرائيلية قالت انه لربما كانت التهديدات تمهد لإبعاد الرئيس إلى غزة وهي فكرة أيدها علنا رئيس المعارضة الإسرائيلية شمعون بيريس.ومن جانبه قال قائد المنطقة العسكرية لوسط إسرائيل الجنرال موشي كابلينسكي : "الجيش الإسرائيلي لم يتلق أية تعليمات في هذا الشأن لكنه مستعد للتحرك".

وحذر من أن "أي شخص متورط في الإرهاب يجب أن يدرك أنه لا يستطيع النوم بأمان".

وتواصلت أيضا الهجمات الأميركية على عرفات ،واتهم وزير الخارجية الأميركية كولن باول عرفات بمواصلة إلقاء البيانات التحريضية في المنطقة، وشدد باول على"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وحمل الفلسطينيين مسؤولية استمرار أعمال العنف منتقدا بشدة الرئيس عرفات. ودعا باول عرفات مجددا إلى التخلي عن السيطرة على أجهزة الأمن.

وفي 3 أيار/مايو 2004 حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي المقاطعة مجددا، ومنعت الدخول أو الخروج من مكتب عرفات، وبعد ثلاثة أيام تعمد بوش أن يتجاهل عرفات، وقال للصحافة أنه سيبعث برسالة شخصية إلى رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع وأنه سيوسع الحوار بين الولايات المتحدة والفلسطينيين.ولم يسمح لعرفات بمغادرة الأراضي الفلسطينية للمشاركة في القمة العربية بتونس يوم 22/5/2004 فتحدث إليها في كلمة متلفزة جدد فيها التزامه بسلام الشجعان ،وطالب بقوة دولية لحماية الشعب الفلسطيني ومراقبة ما تقوم به إسرائيل .

تواصلت الاعتداءات الإسرائيلية في الضفة وغزة وردت الفصائل الفلسطينية بعمليات تفجيرية في إسرائيل، وفي اليوم الأخير من الشهر ذاته أعلنت القاهرة موافقة عرفات وشارون على مبادرة مصرية لوقف أعمال العنف وإعادة تحريك المفاوضات وعقد لقاء بين شارون وقريع.وفي اليوم التالي تحدثت مصادر إسرائيلية عن استعداد شارون لتغيير موقفه من عرفات إذا وافق الأخير على التخلي عن صلاحياته الأمنية وإذا منح صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء أحمد قريع.

تلقى عرفات دعما مهماـ في ظل الحصار الإسرائيلي المدعوم أميركيا ـ فقد تصادم الرئيس الفرنسي جاك شيراك مع السياسة الخارجية الأميركية يوم 29/6/2004 بقوله إن العزلة المفروضة على الرئيس ياسر عرفات تعرقل عملية تحقيق السلام في الشرق الأوسط.وأضاف شيراك الذي كان يتحدث على هامش قمة للحلف الأطلسي:"يمكن للناس أن يتبنوا ما شاؤوا من آراء في الرئيس عرفات أو أي رئيس آخر... لكن لا يمكن منازعة الشرعية ما لم تقدم شرعية مختلفة." وقال : "من الطبيعي أن تكون لفرنسا اتصالات مع الرئيس الفلسطيني عرفات الذي ربما يكون الشخص الوحيد القادر على فرض حل وسط على الشعب الفلسطيني."وفي نفس اليوم أوفد شيراك وزير خارجيته ميشال بارنييه إلى رام الله للقاء عرفات. وتعقيبا على الزيارة شجب شارون ما وصفه بأنه التصرف غير الودي للحكومة الفرنسية،وقال شارون "أصابتني زيارة بارنييه وكذلك تصريحات الرئيس جاك شيراك حول وضع ياسر عرفات بالخيبة".

تواصل الحصار الإسرائيلي على عرفات وفي الأول من آب/أغسطس 2004 منحت جامعة القدس الدكتوراة الفخرية لياسر عرفات وذلك في حفل خاص أقيم في مقر عرفات بالمقاطعة المحاصرة.ومرة أخرى جدد عرفات وبنفس القوة ما كان دائما يؤكده:الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن أرضه وحريته ولن يرضخ للاحتلال.وفي الثامن عشر من الشهر نفسه ألقى عرفات خطابا أمام المجلس التشريعي الذي انعقد في المحاصرة،كان الخطاب شاملا وتضمن لأول مرة تقييما للسنوات العشر من عمر السلطة الفلسطينية.

وفي الثاني عشر من أيلول/سبتمبر أعلن عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية أن الدول العربية تجري مشاورات بشأن التهديدات الإسرائيلية للرئيس ياسر عرفات، وقال موسى عقب اجتماع لمندوبي الدول العربية في القاهرة أن هذه التهديدات غير مقبولة وينبغي الرد عليها،والرئيس عرفات هو الرئيس الشرعي للشعب الفلسطيني والعنوان الرئيسي والصحيح للتحدث بشان القضية الفلسطينية.


عرفات يستقبل عمر سليمان 2004




ورد شارون على التحرك العربي بأن جدد يوم 14/9/2004 تهديداته وألمح إلى أن إسرائيل قد تغتال عرفات أو تطرده من الأراضي الفلسطينية.وقال شارون لصحيفة"يديعوت أحرونوت":لا أرى فرقا بين عرفات وبين زعيمين لحماس اغتالتهما إسرائيل في الربيع الماضي ـ هما أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ـ" ..جميعهم يتبعون سياسة قتل ..وسنفعل بعرفات ما فعلنا مع القتلة.

وكذلك تحث في نفس الاسبوع وزيرا الدفاع والخارجية الإسرائيليين شاؤول موفاز وسيلفان شالوم عن العزم على "طرد" عرفات "قريبا".

واعتبرت السلطة الوطنية الفلسطينية التهديدات خطيرة جدا وطالبت بتدخل اللجنة الرباعية الدولية.

وقال صائب عريقات وزير شؤون المفاوضات: هذه التهديدات تحضير وتمهيد للمس بالرئيس عرفات جسديا .

وقال شارون بعد ثلاثة أيام في تصريحات صحافية: سنتخلص من ياسر عرفات عندما تكون الأوضاع في صالحنا ..ولو استطعنا التخلص منه لفعلنا ذلك منذ مدة.

يوم 22/9/2004 كرر شارون تهديداته وقال: إسرائيل ستتخذ كل إجراء ضد ياسر عرفات في الوقت الذي تراه مناسبا كما فعلت عند اغتيال زعماء حماس في وقت سابق من العام الحالي.

وبقيت الاتصالات مقطوعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ،وبدا واضحا لعرفات أن شارون ينفذ فقط ما اعتاد عليه طوال حياته ضد الفلسطينيين ، ودعا عرفات في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2004 مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار يلزم إسرائيل بوقف عدوانها ضد الشعب الفلسطيني وبوقف استخدامها الأسلحة المحرمة دوليا وانتهاكها للمقدسات المسيحية والإسلامية وقتل النساء والأطفال, وأكد عرفات أن الاتصالات الرسمية مع الحكومة الإسرائيلية مقطوعة.

استشهاد القائد

في يوم الثلاثاء 12تشرين الأول/ أكتوبر 2004 ظهرت أولى علامات التدهور الشديد على صحة الرئيس ياسر عرفات، فقد أصيب الرئيس بمرض في الجهاز الهضمي حسب تشخيص الأطباء. وقبل ذلك بكثير، عانى عرفات من أمراض مختلفة، منها نزيف في الجمجمة ناجم عن حادث الطائرة، ومرض جلدي (فتيليغو)، ورجعة عامة عولجت بأدوية في العقد الأخير من حياته، والتهاب في المعدة أصيب به منذ تشرين أول/ أكتوبر 2003.

لكن وضعه الصحي العام كان جيدا قبل التدهور الأخير الذي بدأت بوادره في السنة الأخيرة من حياته حين تم تشخيص جرح في المعدة وحصى في كيس المرارة.

ولكن الحالة الصحية للرئيس تدهورت تدهوراً سريعاً يوم الأربعاء 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2004 وتدفق آلاف المواطنين الى مقر المقاطعة، للاطمئنان على صحة الرئيس، فيما خرجت مسيرات حاشدة في عدة مدن بالضفة والقطاع تعبيرا عن قلقها على صحة عرفات.و عالميا، قطعت وسائل الإعلام العالمية المرئية والمسموعة، برامجها العادية ، وبدأت ببث تقارير مستعجلة ومباشرة من مقر المقاطعة لمتابعة التطورات التي حدثت على صحته.

جاءت نتائج جميع الفحوص الأولية التي أجريت لعرفات مطمئنة نسبيا، لكن استجابته للعلاج كانت محدودة. ورأى الأطباء ضرورة نقله إلى الخارج للعلاج ، قرر الأطباء بمن فيهم أعضاء الوفد الطبي المصري والوفد الطبي التونسي الذين حضروا للمساهمة في علاج الرئيس ـ نقله إلى فرنسا للعلاج . ووافق الرئيس ياسر عرفات على قرّار الأطباء بعد تلقي تأكيدات أميركية وإسرائيلية بضمان حرّية عودته للوطن .

ونقلته طائرة مروحية إلى الأردن ومن ثمة أقلته طائرة أخرى إلى مستشفى بيرسي العسكري في كلامار قرب باريس في فرنسا في 29تشرين الأول/ أكتوبر 2004 حيث أجريت له العديد من الفحوصات والتحاليل الطبية.


عرفات مودعا 2004




وكانت صدمة للشعب الفلسطيني حين ظهر الرئيس العليل على شاشة التلفاز مصحوباً بطاقم طبي وقد بدت عليه معالم الوهن.

وتمنت وزارة الخارجية الأميركية أن يتلقى الرئيس ياسر عرفات "العلاج الـمُناسب و أن يستعيد صحته" فيما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "روسيا تتمنى الشفاء العاجل للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وتأمل أن تفي الحكومة الإسرائيلية بتعهدها في السماح له بالعودة إلى الأراضي الفلسطينية ..عرفات هو القائد المنتخب للأمة الفلسطينية والذي سيحتفظ بدوره كأب لهذه الأمة."

وأعلنت ممثلة فلسطين في فرنسا ليلى شهيد في اليوم التالي 30 تشرين الأول/أكتوبر أن التشخيص الطبي المتعلق بوضع الرئيس ياسر عرفات لن يصدر قبل بضعة أيام.

وقالت "لن نعرف شيئا قبل انتهاء الفحوص، الأمر الذي يمكن أن يستغرق أياما عديدة"، مشيرة إلى احتمال أن يكون الأمر "حمى في الأمعاء".

وأضافت "ياسر عرفات متعب جدا، إلا أنه واع ومرتاح لوجوده هنا ..طلب مني أن أشكر كل السلطات الفرنسية والمستشفى لاستقباله وهو سعيد لوجوده في فرنسا ".

وفي اليوم التالي أكدت شهيد أن عرفات أمضى "ليلة مريحة" وأن "معنوياته مرتفعة". وقالت " عمليات الكشف متواصلة لكن في الوقت الراهن يستبعد الأطباء أي اثر لسرطان الدم".

وأضافت شهيد أن عرفات تحدث لابنته زهوة في الهاتف بينما كانت زوجته سهى إلى جانبه في المستشفى .وقالت "إذا استمرت الأمور على ما هي عليه فذلك يدعو إلى الاطمئنان" ولكن بعد ساعات وفي نفس ذلك اليوم أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية أن الأطباء المكلفين معالجة عرفات قرروا مع موافقة العائلة والبعثة العامة لفلسطين في فرنسا على "عدم السماح بالزيارات خلال الأيام المقبلة، حفاظاً على راحته، وسيصدر تقرير حول الوضع الصحي لعرفات فور انتهاء التشخيص"

أثار هذا الإجراء قلق الشعب الفلسطيني ومحبي عرفات في العالم، وكان عدد من المسئولين والمبعوثين العرب والأوروبيين زاروه في ذلك اليوم. وانهالت الاتصالات والبرقيات من مختلف أنحاء العالم للاطمئنان على صحة الزعيم الفلسطيني، وتابعت محطات التلفزة العالمية تغطيتها المتواصلة أولا بأول لكل ما كان يجري في المستشفى وخارجه .

و في نفس اليوم 31/10/2004 انتشرت تقارير تؤكد تحسن وضعه الصحي وتكشف عن اتصاله بوزير المالية سلام فياض ليحثه على الإسراع في صرف الرواتب للموظفين المدنيين والعسكريين .

وتزايد الحديث في أوساط عديدة عن احتمال تعرض عرفات للتسميم، وقال أحد المسئولين الفلسطينيين : الأطباء يبحثون أيضا في احتمال إصابة عرفات بعدوى فيروسية أو تسمم.

وكان شارون يستعجل غياب عرفات ودعا الفلسطينيين في نفس اليوم إلى اختيار قيادة جديدة يكون نهجها مغايرا لنهج عرفات ..ومواصلا تمسكه بنهجه المتطرف تجاه خصمه القديم قال شارون " حتى لو مات عرفات سأرفض أي طلب لدفنه في القدس". وأضاف شارون: "ما دمت هناـ وأنا لا انوي الرحيل قريبا ـ فلن يدفن عرفات في القدس".

وفي اليوم التالي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر أعلنت ليلى شهيد أن عرفات يتحسن ولكنه متعب للغاية ومنهك. وأن الإنهاك الذي يعاني منه ناجم أساسا عن الإسهال والقيء ولكن من الواضح جدا أنه لا يوجد أي مؤشر على أي شيء خطير وليس هناك إصابة بسرطان الدم من أي نوع كما لا توجد أية أورام.

وفي اليوم الخامس على دخوله المستشفى أعلنت ليلى شهيد أن التقرير الطبي الرسمي الأول حول صحة الرئيس ياسر عرفات أكد عدم إصابته بسرطان الدم، ومعاناته من اضطرابات في عمل الجهاز الهضمي. وأنه في حالة تسمح له بالحديث مع أطبائه وزملائه وأقاربه وزعماء الدول لكن لا يسمح له بعد باستقبال زوار خارج نطاق أسرته المباشرة .

وصباح 3/11/2004أشار تقرير المستشفى إلى "أن الفحوصات أكدت وجود مشاكل في الدم (تكسر الصفائح في الدم ) ما يبعد فرضية الإصابة بسرطان الدم".

صباح اليوم الرابع من الشهر نفسه تغيرت الأجواء وجاءت التقارير مقلقة مع حدوث تدهور مفاجىء ونقله إلى غرفة العناية المركزة. ووسط مجموعة أخبار بثتها وسائل إعلام إسرائيلية عن وفاة الرئيس تولدت حالة من البلبلة والارتباك استمرت ساعات طويلة قبل أن يخرج ناطق باسم الـمستشفى الفرنسي ليعلن أن الرئيس عرفات ما زال حيا.

ودعت القيادة الفلسطينية جماهير الشعب الفلسطيني إلى الحذر من الأنباء الـمشوّهة، داعية إياها إلى إظهار رباطة الجأش وإظهار الوحدة الوطنية والالتفاف حول قائدها ياسر عرفات والابتهال إلى العلي القدير ليمنّ عليه بالشفاء.

وقال الجنرال كريستيان استريبو رئيس الأطباء في الجيش الفرنسي "إن وضعه السريري بات أكثر تعقيداً ..الرئيس عرفات سيبقى في الـمستشفى في بيرسي حيث نقل إلى قسم من الـمستشفى خاص بمرضه، إن الرئيس عرفات لـم يتوفَ".

وكان مصدر طبي فرنسي قال في نفس اليوم إن الرئيس عرفات"في حالة غيبوبة قابلة للعودة"وأوضح الـمصدر الطبي أن عرفات "لـم يمت وهو موصول إلى أجهزة حيوية".

وأجمعت تصريحات الـمسؤولين الفلسطينيين على أن عرفات "في وضع صعب" ومنهم من وصف حالة الرئيس بـ "الحرجة جدا".

وأعلن مسؤول في الخارجية الأميركية أن فرنسا أكدت لواشنطن أن عرفات "في حالة حرجة وغائب جزئياً عن الوعي".

وقال الـمسؤول : "وفق الـمعلومات الأخيرة التي حصلنا عليها من فرنسا فان ياسر عرفات في حالة حرجة، لكنه غائب جـزئياً عن الوعي..الوضع لا ينبئ بالخـير".

وفي الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر قال الجنرال كريستيان استريبو "الحالة الصحية للرئيس عرفات لـم تتدهور وما زالت مستقرة".

وجاء هذا الإعلان عقب بيان سابق لـمفوضة فلسطين في باريس ليلى شهيد أكدت فيه أن الرئيس عرفات يرقد بين الحياة والـموت في غيبوبة.

وقالت شهيد: يمكننا القول إذا أخذنا في الاعتبار حالة الرئيس عرفات وعمره فإنه يعتبر في مرحلة حرجة بين الحياة والـموت، كل الأعضاء الحيوية تعمل، وهذا ما دعا الأطباء إلى القول إنه يمكن أن يتعافى وكذلك يمكن ألا يشفى.

وجاءت تعليقات شهيد عقب تقارير في الصحافة الفرنسية وفي إسرائيل بأن الرئيس الفلسطيني مات إكلينيكياً وأن الأجهزة الصناعية تبقيه على قيد الحياة.

وبقي وضع عرفات مستقرا وخطرا يوم السبت 6/11،وشعر الفلسطينيون بالقلق..راحوا يصلون من أجل "أبو الأمة الفلسطينية"كما أسماه لاجئون من المخيمات في لبنان .

واصل ياسر عرفات صراعه مع المرض،لكن بات واضحا للجميع أن الرجل الذي نجا من عشرات محاولات الاغتيال والقصف المباشر وصارع الأهوال في حياته يوشك على الانتقال إلى الرفيق الأعلى.

تجمع المئات من الفلسطينيين والفرنسيين أمام مستشفى بيرسي ونظمت تجمعات ومسيرات وصلوات في أنحاء العالم حبا وقلقا وطلبا للشفاء .

وفي اليوم الثامن من الشهر توجه وفد فلسطيني يضم محمود عباس وأحمد قريع ونبيل شعث وروحي فتوح من رام الله إلى باريس لمتابعة الوضع الصحي للرئيس عرفات وللاطلاع على التفاصيل التي لم تكن متاحة بموجب القانون الفرنسي الذي ينص على سرية المعلومات الطبية للمريض، وعلى إعطائها فقط لأقرب شخص في أسرته ، وكانت زوجته سهى هي الأقرب قانونيا.

وبعد اجتماع الوفد الفلسطيني مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك تأكدت الأنباء المقلقة وأصبح من الواضح أن عرفات في وضع صعب وأنه يقضي ساعاته الأخيرة .

ولم يتغير الوضع في اليوم التالي إلا بتأكيد حدوث تدهور آخر على صحته، وانه "يصارع" الموت بعد أن كشف الناطق باسم الجهاز الطبي في الجيش الفرنسي أن حالة الرئيس عرفات الصحية "ازدادت خطورة في الليل" وأنه دخل في غيبوبة أعمق"، وتم استدعاء الشيخ تيسير بيوض التميمي قاضي القضاة الشرعيين في فلسطين ليكون إلى جانب الرئيس وللتأكد من الالتزام بالتعليمات الدينية مع تطور حالة الرئيس .

وفي إسرائيل دعا شارون مسئولي الدفاع إلى اجتماع لـمناقشة مسألة جنازة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي تدهورت حالته الصحية بشكل خطير.وجرى في الاجتماع رفض طلب الفلسطينيين دفن ياسر عرفات، في حال وفاته في القدس، وأبلغت إسرائيل القاهرة بأنها ستسمح بدفنه فقط في خان يونس في مدافن عائلته، الأمر الذي رفضه ابن شقيقته ناصر القدوة "مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة" وأبلغ المسئولين المصريين الإصرار على دفن عرفات في باحة المسجد الأقصى في القدس وفقا لرغبته ..لكن شارون رفض. وبعد مفاوضات أقنعت القاهرة المسئولين الفلسطينيين بقبول دفنه في حال وفاته في الـمقاطعة برام الله .

وكانت التقارير عن وفاته تظهر بين ساعة وأخرى منذ نقل إلى المستشفى بفرنسا، وكأنه كان يتمهل في الرحيل ليتقبل شعبه بأقل قدر من الفجيعة نبأ رحيله، ظل يصارع مرض موته إلى أن أسلم الروح لباريها في الساعة الرابعة والنصف من فجر الخميس الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2004. وأكد الشيخ التميمي أن الرئيس مات بينما كانت الأجهزة موصولة بجسده وأن هذه الأجهزة هي التي أبلغت بتوقف النبض والتنفس وبأنه استشهد.

رحل عرفات عن الدنيا فعم الحزن فلسطين وأنحاء كثيرة من العالم مع انتشار الخبر. ونعته القيادة الفلسطينية والرئيس الفرنسي والأمم المتحدة وقادة الدول العربية ومعظم دول العالم .وأعلن الحداد في فلسطين 40 يوما كما أعلن الحداد في الدول العربية والإسلامية وعدد آخر من دول العالم وفي الأمم المتحدة.

وما زاد في فاجعة الفلسطينيين علاوة على غياب زعيمهم و"والدهم" أنهم لم يتمكنوا من الوقوف على حقيقة سبب الوفاة، خاصة وإنهم متأكدون بان في إسرائيل من لم يكن ليتورع عن أي شيء للقضاء على "المزعج" عرفات و لإزالة أبو "الرقم الصعب" في معادلة الشرق الأوسط .

وكان احتمال تسميم عرفات واردا بقوة في تصريحات الأطباء ، وكذلك لم يستبعد مسؤولون فلسطينيون هذا الاحتمال، بل كان يصل لدى الكثيرين إلى درجة اليقين بان عرفات قتل مسموما. وقال الطبيب أشرف الكردي الذي كان يتابع الوضع الصحي لعرفات منذ نحو 25عاما " لا يوجد تشخيص بعد ومعروف من الناحية الطبية أن الأطباء يجرون تشريحا عندما لا يكون هناك تشخيص."وقال الكردي "أطالب بتحقيق في مرض الرئيس عرفات وبتحقيق لمعرفة سبب وفاته."

وردا على تلميحات بأن عرفات ربما كان يعاني من نوع نادر من سرطان الدم قال الكردي "مع هذا الاحتمال . ما زلت لا أستبعد تسميم عرفات."

و قال الدكتور ناصر القدوة ، مندوب فلسطين لدى الأمم المتحدة وابن شقيقة عرفات : "كل خبير استشرناه بين أنه حتى السم الأكثر بساطة، والذي يستطيع عالم متوسط إنتاجه، سيصعب تحديده من عالم فذ ..لا أستطيع أن أحدد يقيناً أن إسرائيل قتلته بالسم ، لكنني لا أستطيع أيضاً أن أنفي هذه الإمكانية فالأطباء أنفسهم لم يلغوا هذه الإمكانية ."

وقال القدوة " حالة عرفات الصحية كانت معقدة لدرجة أنه لـم يكن بالإمكان تشخيصها".

وفي تعليق حول الاحتمالات بأن الرئيس عرفات توفي نتيجة التسمم، نقلت إحدى الصحف عن القدوة قوله "إن هذا هو أكبر شكوكنا... لو كان موته طبيعيا لكان بالإمكان تحديد تشخيص لحالته ، وفي كل الأحوال إسرائيل تتحمل المسؤولية لأنها خلقت ظروف الحصار،وعلينا أن نتذكر أن الحكومة الإسرائيلية أخذت قرارا رسميا بإزالة عرفات ".

ونفت إسرائيل ـ التي سعت علنا "للتخلص" من عرفات ـ أي تلميح لتسميمه ..وفور وفاته وضعت جيشها وشرطتها في حال تأهب قصوى من الدرجة الرابعة التي تعتمد عادة فقط في زمن الحروب. ونشر الجيش تعزيزات من عدة أفواج في الضفة الغربية الخاضعة لإغلاق محكم، وفرض حصاراً على المدن لكن جنوده ابتعدوا عن المناطق المأهولة لتجنب أية مواجهات.وجددت إسرائيل إعلان رفضها فكرة دفن عرفات في المسجد الأقصى بالقدس.



الوداع

ودعت فرنسا يوم 11/11/2004جثمان الرئيس ياسر عرفات الذي كان ملفوفا بالعلم الفلسطيني في مراسم رسمية مهيبة ،وحمله حرس الشرف على الأكتاف ،وقام الرئيس الفرنسي جاك شيراك بتقديم العزاء شخصيا لأسرة وأقارب عرفات وللمسؤولين الفلسطينيين الذين تواجدوا في باريس. وأقلت طائرة حكومية فرنسية جثمان عرفات إلى القاهرة.


جنازة عرفات في باريس




وفي القاهرة أقيمت جنازة عسكرية مهيبة تكريما لعرفات بمشاركة وفود رسمية من 61 دولة وبحضور حشد من القادة العرب والمسؤولين العرب والأجانب. واستغرقت مراسم تشييع الزعيم الفلسطيني في القاهرة قرابة الساعتين .


جثمان عرفات على عربة مدفع بالقاهرة




كما شاركت وفود وشخصيات فلسطينية من مختلف الفصائل. وأقيمت صلاة الجنازة على روح عرفات في مسجد نادي الجلاء وأمها شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي .وعقب الصلاة تجمع المشيعون العرب والأجانب في سرادق أقيم داخل النادي حيث تليت آيات من القرآن الكريم، وتلقى الوفد الفلسطيني الرسمي العزاء لينطلق بعدها موكب جنائزي مهيب تقدمه الرئيس المصري حسني مبارك وعدد من القادة العرب لتشييع الجثمان استغرق قرابة نصف الساعة،وانتهى في مطار الماظة العسكري الواقع على بعد بضع مئات من الأمتار من نادي الجلاء .ووضع جثمان عرفات فوق عربة مدفع تجرها الخيول،وأحاط بالجثمان حملة الأوسمة والنياشين التي حصل عليها عرفات يتقدمهم رجال حرس الشرف وهم يحملون السيوف وباقات الزهور ،فيما كانت فرق عسكرية تعزف موسيقى جنائزية ثم عزفت السلامين الوطنيين المصري والفلسطيني.


القادة العرب في جنازة عرفات في القاهرة




ونقلت طائرة عسكرية مصرية من طراز هيركوليز سي ـ 130الجثمان إلى مدينة العريش المصرية حيث وضع على متن مروحية عسكرية مصرية نقلته إلى رام الله.

وفي رام الله كان نحو ربع مليون مواطن في انتظار وصول جثمان القائد الرمز في رحلته الأخيرة..وعند الساعة الثانية والربع بتوقيت فلسطين من يوم الجمعة الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2004 ، حطت مروحيتان عسكريتان مصريتان إحداهما تقل جثمان " أبو عمار" على المهبط الرئاسي في مقر المقاطعة. وكان المشهد مؤلماً وحزيناً للسيل الجارف من المواطنين الذين كانوا في استقبال والدهم وزعيمهم التاريخي العائد شهيدا ، احتشد مئات الآلاف رغم كل العراقيل والحواجز المتعمدة التي وضعتها قوات الاحتلال، وتقطيعها لأوصال الوطن لحرمان المواطنين من وداع قائدهم. وفور هبوط المروحيتين، تدافع آلاف المواطنين نحو الطائرتين لإلقاء نظرة الوداع على جثمان الرئيس الشهيد، وهم يكبرون ويهللون ويهتفون باسمه ، ما أحدث بلبلة في المراسم الرسمية التي أعدت مسبقاً. وانتشرت جموع المواطنين في كافة أرجاء مقر الرئاسة، وفوق أسطح المنازل المجاورة، وسط مشاعر جياشة تجاه الراحل الكبير عرفات. وباءت كل محاولات رجال الأمن والشرطة لإبعاد المواطنين عن الطائرة، ولإخراج جثمان الرئيس بالفشل، من شدة السيل الجارف من المواطنين. وبعد محاولات مضنية وشاقة، تمكن رجال الأمن من إخراج جثمان الرئيس الذي لف بعلم فلسطين، ليرفعوه فوق أكتافهم، وسط تدافع المواطنين لينالوا شرف المشاركة في حمله، ووسط صيحات وهتافات الوفاء للرئيس القائد.اخترق نعشه الأمواج البشرية بصعوبة بالغة ، فيما كانت حناجر آلاف المواطنين تهتف بالشعارات التي تحيي أفكار الرئيس والمبادئ التي قضى من أجلها. وهتفت جموع الموطنين بشعارات، منها: "يا أبو عمار ارتاح ارتاح وحنا حنواصل الكفاح"، "أبو عمار صرح تصريح يا جبل ما يهزك ريح"، وغيرها من الشعارات التي تحيي الرئيس الشهيد، أو تلك التي كان الراحل يرددها في حياته بين شعبه. ورفع المواطنون صور عرفات، والأعلام الفلسطينية وبعض أعلام الدول العربية والرايات السوداء. كما رفع العديد من المواطنين الأعلام الفرنسية، تعبيراً عن التقدير لفرنسا شعباً وحكومةً ورئيساً، على الاهتمام البالغ الذي لقيه زعيم الشعب الفلسطيني من لدنها أثناء فترة مرضه، وأيضا أثناء وداع جثمانه رسمياً وشعبياً.


جنازة عرفات في رام الله




وودع عشرات الآلاف من المشيعين قائدهم التاريخي الشهيد ياسر عرفات (أبو عمار) في عرينه بمقر الرئاسة . ..ووسط هتافات وتكبيرات عشرات آلاف المواطنين وضع جثمان الشهيد القائد في ضريح خاص في ساحة مقر الرئاسة ليدفن فيه "مؤقتاً"، لأن عرفات أوصى بدفنه في باحة الحرم القدسي الشريف، حيث سيتم نقل رفات عرفات إليه بعد تحريره.

وأقيمت صلاة الغائب على روح عرفات بعد صلاة الجمعة في المسجد الأقصى بالقدس .وشارك عشرات الآلاف من المواطنين في غزة في جنازة رمزية تزامنت مع مراسم تشييعه في رام الله .ونظمت جنازات رمزية حاشدة وصلوات لعرفات في المدن الفلسطينية وفي عدة عواصم ومدن عربية بينها القاهرة ودمشق وبيروت وصنعاء،وكذلك في عدد من الدول الإسلامية ودول أخرى في العالم.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق