الرّغبة المُبتَسرة بين المقدّس والمحرّم: السقوطٌ عن حافّة الروح
مُغريةٌ تلك الدعوة لِولوج المحرّم، وملحٌّ نداء الرغبة لِرأب ما بُتِرَ فجَمَح. ممتعٌ التجذيف في محيط الرغبات المحرّمة، وجليلٌ هذا التناقض الجذّاب. ضدّان يتنازلان على أرض وسماء فينبثق من شرارتهما فضاء ثالث: عالمٌ آخر لمقامات اللذة.
الرغبة والمحرّم يتناديان ليفصحا عن جدليّةٍ من قِدَم التاريخ، لاتنفكّ تعتمر سحابة مثيرة تمطر سحراً وأوهاماً وقدسيةً وأساطير. وإذا كانت الرغبة كما يراها سبينوزا "هي ماهيّة النفس وجوهرها"، فلا بدّ لهذا الكائن "الراغب" في كل أحواله أن يواجه "المحرّم"، فحرمان النفس التائقة إلى النشوة، عُلويّةً كانت أم دنيويّة، هو البتر الموجع أو... المبدع. الرغبة المبتورة أبدعت في خلق "الرغبة المبتسرة- محاولات وأبحاث في المحرّم"*، فكانت المحرّضة على اكتناه مساحات مسوّرة بِلاءات شائكة، خلفها حديقةٌ مزهرة يضوع في فنائها أريج الرغبات المتدارِكة أوان الذروة.
ماجدة داغر من بيروت
ومن تلك الذروة النائية تقتبس النفسُ نشوتها الآخذة في الانتشاء تحدّياً واشتهاءً فإبداعاً. ومن إبداعية الجسد المبتورة المترقّبة إمتاعاً وإشباعاً، تتوالد المساحات المنتظِرة لِتعبثَ بمسارٍ فتحوّله إلى مكانٍ غيبيٍّ شفيف، يتبادع فيه الخلقُ أدبيّاً وفنيّاً وروحيّاً، مكان تكون الرغبة فيه مقصلة الجسد، فتفصله عن حسّه ويصلان إلى ما خلف الجسد، إلى ما قبل الروح، هناك حيث النشوة الهيوليّة. هناك حيث الرغبة المحبَطة تُثري الطاقة فتُلبسها جسداً آخر( النشاط الإبداعي أو "الطاقة الليبيديّة" كما يسمّيها فرويد)، جسدٌ يسبح في الصوفيّة والإيروسيّة، في المقدّس والترابيّة، في الانحياز الدائم إلى الخلق، إلى الغبطة، في مقامات استحضرها د. لويس صليبا من دعاء في أقدم كتاب في العالم "ريك فيدا": "حيث تقطن السعادة والفرح، الغبطة والمتعة. في هذه المقامات حيث يولد الإشباع مع الرغبات. ألا فاعطني الخلود".
يغري نداء لويس صليبا لسماع الأصوات الكثيرة فيه. أصوات تختزن حضارات وتواريخ وأناشيد وابتهالات وطقوساً و...شعراً. فلا تكاد تغلق باباً حتى تُفتح نوافذ كثيرة خلف كلٍّ منها إلهةٌ تحرق البخور، وأخرى تعطّر جسدها بالطيوب، وثالثة تداعب قيثارة للحب والنشوة... فللرغبة في كتابه طرقٌ تقود إلى المتعة، وطقوس للاختبار ووشمٌ على الذات الحاضرة للوصال. وللذّة في كتابه لعبة التخفّي بين العصور حيناً وفي سماوات هرِمة حيناً آخر، ليعود ويظهر متخذاً شكل قصيدة أحياناً أخرى، تحاكي شغفاً "رغائبياً" على امتداد الصفحات. فمدارات الرغبة تغلّف النصوص المتهافتة بشبقٍ أدبيٍّ فريد، يصنع توليفةً مبتكرة فيها علميّة البحث ودقّة التوثيق، وفيها سحر التاريخ وعظمة الأسطورة وتَورياتها، أما في ثناياها فجمالية الشِعر وانثياله بين حكايات المؤلِّف وأغانيه.
قبل الوصول إلى نصوصه "الحسّية" المُشبعة بلغة الجسد، والتي تلبّي نداء الحواسّ النزِق، لا بدّ من عبور ذلك الجسر المعلّق على دهريّة الرغبة المتعملقة في النفس البشرية منذ فجر التكوين. فالعودة إلى بدائيّة الأحاسيس غير القابلة للتطوّر، والتي تشكّل هذا السؤال الدياليكتيكي المتمحوِر حوله مؤلَّف "الرغبة المبتسرة"، تظهر من خلال " نشيد الأناشيد" أو بوابة الرغبات الكبرى التي تفتح على أناشيد أخرى، تتماهى بمناخها مع "أجمل نشيد في الكون"، إنما بإشباعٍ أقلّ فرغبة أعنف. ذلك هو نشيد "ياما ويامي" مجسّداً بتر الرغبة المُفضية إلى شطحات صوفيّة وخلقٍ أدبي هنديّ لم تُبهِته آلاف السنين. وبين استحضار هذين النشيدين ببُعديهما الروحي- السامي والدنيوي- المحسوس، وبين المباشر والتأويل والرمزية والمجاز، خصوصاً في ما يمسّ "نشيد الأناشيد" هذا السِفر/ القصيدة الذي ألهم الشعراء على مرّ العصور، واختلف في تفسيره كبار اللاهوتيين، فهو حيناً "قدس أقداس أسفار التوراة" وحيناً آخر لغة الحب الجسدي وتقديس الملذّات، يجمعهما صليبا بمزاوجة المقدّس والمحرّم ورؤيةٍ صوفيّة شديدة الإيحاء، يختزلها بـ "نشوة النفس" فيستعير، لتبسيطها، حكمة أغوسطينوس معلّم الكنيسة وفيلسوفها الذي يقول: " إذا كانت لحواسّ الجسد لذّتها، فهل تجهل النفس الملذّات؟ إنّ لها ملذّاتها أيضاً".
تتراءى هنا حِرفيّة المؤلِّف وعمق ثقافته التي تستحضر التجريد في الفكرة والفلسفة، لِترديه في مرمى العين والإحساس صريع اللوحة الفنّية، ناقلاً شطحة القديس أوغسطينوس مبسّطةً في منحوتتَين آيةً في الإبداع للفنان برنين (Bernin )، تمثّلان النشوة القدسيّة- الجسدية لقدّيستين في كنيستين في روما. أما السَّفر مع الكتاب "المحرّم" فغاية في المتعة التشكيليّة بين رامبرنت ( Rembrandt ) ورينوار (Renoir ) وفاليسكيز(Valesquez ) وشغال (Chagal ) وغيرهم من فنانين أضفوا نزقاً وامتداداً فنيّاً لنصوص جاورت إبداعهم كتابةً.
كمينٌ أدبيّ يؤلّفه صليبا، فيقع فيه القارئ اللاهث خلف متعةٍ تغدو مزدوجةً فجأةً عند الاقتراب المروّع من الذروة. ذاك الاقتراب الذي يُمسي التصاقاً أثيريّاً مع جسدٍ بأبهى تجلّياته واشتهاهاءاته وبركانيّته وفانتازيّته وتهويماته ومسارب لذّته، كلّها تُصاغ شعراً مدوّي الصمت فينسلّ ويمور ويجمح كـ"نداء الحواسّ" في الباب الأول فيوقظ الرغبات والألوان التي يكاد لا يخلو منها أيّ من النصوص المقفّاة، والتي إن دلّت فإلى مناخات المؤلّف المتعدّدة ومداراته اللونيّة في عالم الرغبات: " وجهك من قرص الشمس الأحمر/ يأخذ لون احمرار المغيب/ عيناك يا للعسليّ المشوب بالأخضر(ص 87 )، و " متّشحةً هي بالسواد... إيثاراً للون الليل والمداد... مسحة خمرية في شال تدلّى... لكأن أحمره حين التقى ببشرتها/ شابه شيء من سوداويتها/ فغدا داكناً من غير طلاء..." عالم لونيّ شبِق يثير الحواسّ المتهافتة على لغة الجسد المتوهّجة نهداً وشفةً وساقاً، وعطر الشهوات يفوح في حميميّة الملامسة والمداعبة في ترقّب الوصال. يبدو بعيد المنال هذا الوصال، الذي يفرد له صليبا خاتمة الكتاب في "طقس الوصال" ونشيد طقس الوصال أو (Maithuna ) مقطع نادر من نصوص التانترا (نظام صوفي هندي) وهو احتفال ديني يتضمّن "تقديس الاتحاد الجسدي". وهنا العودة الدائمة إلى الرغبة وإشباعها التي تبدو مبتورة مجدّداً في نصوص المؤلّف، ولاسيّما في الباب الثاني "على عتبة الهيكل" الذي تختمر فيه رؤية صوفيّة في مناجاة وشوق للاتحاد مع الخالق والحبيب. فالحب ترنيمة دائمة التلاوة و"القبلة صلاة" (قبلة في معبد ص 125 ).
إنه السراب خلاصة اللذة الحسيّة يترجمه صليبا، على رغم الحواسّ الملتهبة التي تظلّل الباب الثالث "رغبات ومحرّمات"، وعلى رغم عرسها هذه الحواس في الحضور الكثيف للنهدين والوركين والقدمين وإغراء الجسد والانقضاض على اللذة، ها هو صمت صوفيّ عميق يتغلغل مذكّراً بوهميّة الإشباع الحسّي: "أليست متعة الحواس سراباً/ يحسبه الظمآن ماء/ حتى إذا إليه جاء/ وجده وهماً وللحقّ حجاباً؟"(ص179 ). وفي " خلوة ليلة السفر" التي تضجّ أيضاً بالشغف والشوق والأحاسيس، يفقه صليبا مجدّداً تلك الوهميّة السرابيّة حتى في ذروة اليقظة، وكأنه حين يقول: "وهل اليقظة سوى أخت للمنام؟"(ص 150 )، يستحضر عمر الخيّام القائل: "وما حقيقة الكون لناظرها سوى مجاز".
بين قدسيّة الصمت "فطوبى لصمت فتّح الجوارح" (ص 208 )، والرغبة المبتسرة "اليوم حول الهيكل طفنا/ فمتى ندخل قدس الأقداس؟"(ص 209 )، وجه مازوشيّ يبرز متّخذاً بعداً صوفيّاً توحّدياً وكأنه يقول مع فخر الدين الرازي: "ليست اللذات الحسيّة سوى دفع للألم"، فيسبّح صليبا أقنوم الألم واللذة: "سبحان من جعل الألم واللذة يجتمعان/ وفي الأنّة والآه يتوحّدان/ وجهان لزفرة واحدة يغدوان".
لذّةٌ مبتكَرة هذي المزاوجة بين المقدّس والمحرّم، تنبض على إيقاع ثنائيّةٍ كونيةٍ أزليّة. ونشيدٌ واحد متقطّع الأنفاس هو "الرغبة المبتسرة"، تَتلوّى عند غنائه أوتار قيثارة حرّى، وتنعتق الرغبة من صمتٍ دهري عابثةً منشطِرة، نصفها يسقط عن حافّة الروح أمّا النصف الآخر... فانتظارٌ ممتع لاكتمال اللذّة!
* كتاب "الرغبة المبتسَرة- محاولات وأبحاث في المحرّم" للدكتور لويس صليبا، أستاذ ومدير أبحاث في الأديان المقارنة \ باريس، ومتخصّص في الفلسفة والتصوّف. صدر له عن دار بيبليون أكثر من خمسة وثلاثين مؤلّفاً في الدراسات الإسلامية وفي الدراسات الهنديّة والفيديّة، في التصوّف وفي الدراسات اليهوديّة. منها: "أقدم كتاب في العالم: ريك فيدا" دراسة، ترجمة وتعليقات. "المعراج من منظور الأديان المقارنة" دراسة لمصادره السابقة للإسلام ولأبحاث المستشرقين فيه. "دراسة للأثر اليهودي في الحديث النبوي والتفسير" مدخل نقدي وتنقيح وترجمة كتاب كعب الأحبار لإسرائيل ولفنسون. "الصمت في المسيحية"، مفهومه واختباراته في الإنجيل وكنائس المشرق والغرب.
مُغريةٌ تلك الدعوة لِولوج المحرّم، وملحٌّ نداء الرغبة لِرأب ما بُتِرَ فجَمَح. ممتعٌ التجذيف في محيط الرغبات المحرّمة، وجليلٌ هذا التناقض الجذّاب. ضدّان يتنازلان على أرض وسماء فينبثق من شرارتهما فضاء ثالث: عالمٌ آخر لمقامات اللذة.
الرغبة والمحرّم يتناديان ليفصحا عن جدليّةٍ من قِدَم التاريخ، لاتنفكّ تعتمر سحابة مثيرة تمطر سحراً وأوهاماً وقدسيةً وأساطير. وإذا كانت الرغبة كما يراها سبينوزا "هي ماهيّة النفس وجوهرها"، فلا بدّ لهذا الكائن "الراغب" في كل أحواله أن يواجه "المحرّم"، فحرمان النفس التائقة إلى النشوة، عُلويّةً كانت أم دنيويّة، هو البتر الموجع أو... المبدع. الرغبة المبتورة أبدعت في خلق "الرغبة المبتسرة- محاولات وأبحاث في المحرّم"*، فكانت المحرّضة على اكتناه مساحات مسوّرة بِلاءات شائكة، خلفها حديقةٌ مزهرة يضوع في فنائها أريج الرغبات المتدارِكة أوان الذروة.
ماجدة داغر من بيروت
ومن تلك الذروة النائية تقتبس النفسُ نشوتها الآخذة في الانتشاء تحدّياً واشتهاءً فإبداعاً. ومن إبداعية الجسد المبتورة المترقّبة إمتاعاً وإشباعاً، تتوالد المساحات المنتظِرة لِتعبثَ بمسارٍ فتحوّله إلى مكانٍ غيبيٍّ شفيف، يتبادع فيه الخلقُ أدبيّاً وفنيّاً وروحيّاً، مكان تكون الرغبة فيه مقصلة الجسد، فتفصله عن حسّه ويصلان إلى ما خلف الجسد، إلى ما قبل الروح، هناك حيث النشوة الهيوليّة. هناك حيث الرغبة المحبَطة تُثري الطاقة فتُلبسها جسداً آخر( النشاط الإبداعي أو "الطاقة الليبيديّة" كما يسمّيها فرويد)، جسدٌ يسبح في الصوفيّة والإيروسيّة، في المقدّس والترابيّة، في الانحياز الدائم إلى الخلق، إلى الغبطة، في مقامات استحضرها د. لويس صليبا من دعاء في أقدم كتاب في العالم "ريك فيدا": "حيث تقطن السعادة والفرح، الغبطة والمتعة. في هذه المقامات حيث يولد الإشباع مع الرغبات. ألا فاعطني الخلود".
يغري نداء لويس صليبا لسماع الأصوات الكثيرة فيه. أصوات تختزن حضارات وتواريخ وأناشيد وابتهالات وطقوساً و...شعراً. فلا تكاد تغلق باباً حتى تُفتح نوافذ كثيرة خلف كلٍّ منها إلهةٌ تحرق البخور، وأخرى تعطّر جسدها بالطيوب، وثالثة تداعب قيثارة للحب والنشوة... فللرغبة في كتابه طرقٌ تقود إلى المتعة، وطقوس للاختبار ووشمٌ على الذات الحاضرة للوصال. وللذّة في كتابه لعبة التخفّي بين العصور حيناً وفي سماوات هرِمة حيناً آخر، ليعود ويظهر متخذاً شكل قصيدة أحياناً أخرى، تحاكي شغفاً "رغائبياً" على امتداد الصفحات. فمدارات الرغبة تغلّف النصوص المتهافتة بشبقٍ أدبيٍّ فريد، يصنع توليفةً مبتكرة فيها علميّة البحث ودقّة التوثيق، وفيها سحر التاريخ وعظمة الأسطورة وتَورياتها، أما في ثناياها فجمالية الشِعر وانثياله بين حكايات المؤلِّف وأغانيه.
قبل الوصول إلى نصوصه "الحسّية" المُشبعة بلغة الجسد، والتي تلبّي نداء الحواسّ النزِق، لا بدّ من عبور ذلك الجسر المعلّق على دهريّة الرغبة المتعملقة في النفس البشرية منذ فجر التكوين. فالعودة إلى بدائيّة الأحاسيس غير القابلة للتطوّر، والتي تشكّل هذا السؤال الدياليكتيكي المتمحوِر حوله مؤلَّف "الرغبة المبتسرة"، تظهر من خلال " نشيد الأناشيد" أو بوابة الرغبات الكبرى التي تفتح على أناشيد أخرى، تتماهى بمناخها مع "أجمل نشيد في الكون"، إنما بإشباعٍ أقلّ فرغبة أعنف. ذلك هو نشيد "ياما ويامي" مجسّداً بتر الرغبة المُفضية إلى شطحات صوفيّة وخلقٍ أدبي هنديّ لم تُبهِته آلاف السنين. وبين استحضار هذين النشيدين ببُعديهما الروحي- السامي والدنيوي- المحسوس، وبين المباشر والتأويل والرمزية والمجاز، خصوصاً في ما يمسّ "نشيد الأناشيد" هذا السِفر/ القصيدة الذي ألهم الشعراء على مرّ العصور، واختلف في تفسيره كبار اللاهوتيين، فهو حيناً "قدس أقداس أسفار التوراة" وحيناً آخر لغة الحب الجسدي وتقديس الملذّات، يجمعهما صليبا بمزاوجة المقدّس والمحرّم ورؤيةٍ صوفيّة شديدة الإيحاء، يختزلها بـ "نشوة النفس" فيستعير، لتبسيطها، حكمة أغوسطينوس معلّم الكنيسة وفيلسوفها الذي يقول: " إذا كانت لحواسّ الجسد لذّتها، فهل تجهل النفس الملذّات؟ إنّ لها ملذّاتها أيضاً".
تتراءى هنا حِرفيّة المؤلِّف وعمق ثقافته التي تستحضر التجريد في الفكرة والفلسفة، لِترديه في مرمى العين والإحساس صريع اللوحة الفنّية، ناقلاً شطحة القديس أوغسطينوس مبسّطةً في منحوتتَين آيةً في الإبداع للفنان برنين (Bernin )، تمثّلان النشوة القدسيّة- الجسدية لقدّيستين في كنيستين في روما. أما السَّفر مع الكتاب "المحرّم" فغاية في المتعة التشكيليّة بين رامبرنت ( Rembrandt ) ورينوار (Renoir ) وفاليسكيز(Valesquez ) وشغال (Chagal ) وغيرهم من فنانين أضفوا نزقاً وامتداداً فنيّاً لنصوص جاورت إبداعهم كتابةً.
كمينٌ أدبيّ يؤلّفه صليبا، فيقع فيه القارئ اللاهث خلف متعةٍ تغدو مزدوجةً فجأةً عند الاقتراب المروّع من الذروة. ذاك الاقتراب الذي يُمسي التصاقاً أثيريّاً مع جسدٍ بأبهى تجلّياته واشتهاهاءاته وبركانيّته وفانتازيّته وتهويماته ومسارب لذّته، كلّها تُصاغ شعراً مدوّي الصمت فينسلّ ويمور ويجمح كـ"نداء الحواسّ" في الباب الأول فيوقظ الرغبات والألوان التي يكاد لا يخلو منها أيّ من النصوص المقفّاة، والتي إن دلّت فإلى مناخات المؤلّف المتعدّدة ومداراته اللونيّة في عالم الرغبات: " وجهك من قرص الشمس الأحمر/ يأخذ لون احمرار المغيب/ عيناك يا للعسليّ المشوب بالأخضر(ص 87 )، و " متّشحةً هي بالسواد... إيثاراً للون الليل والمداد... مسحة خمرية في شال تدلّى... لكأن أحمره حين التقى ببشرتها/ شابه شيء من سوداويتها/ فغدا داكناً من غير طلاء..." عالم لونيّ شبِق يثير الحواسّ المتهافتة على لغة الجسد المتوهّجة نهداً وشفةً وساقاً، وعطر الشهوات يفوح في حميميّة الملامسة والمداعبة في ترقّب الوصال. يبدو بعيد المنال هذا الوصال، الذي يفرد له صليبا خاتمة الكتاب في "طقس الوصال" ونشيد طقس الوصال أو (Maithuna ) مقطع نادر من نصوص التانترا (نظام صوفي هندي) وهو احتفال ديني يتضمّن "تقديس الاتحاد الجسدي". وهنا العودة الدائمة إلى الرغبة وإشباعها التي تبدو مبتورة مجدّداً في نصوص المؤلّف، ولاسيّما في الباب الثاني "على عتبة الهيكل" الذي تختمر فيه رؤية صوفيّة في مناجاة وشوق للاتحاد مع الخالق والحبيب. فالحب ترنيمة دائمة التلاوة و"القبلة صلاة" (قبلة في معبد ص 125 ).
إنه السراب خلاصة اللذة الحسيّة يترجمه صليبا، على رغم الحواسّ الملتهبة التي تظلّل الباب الثالث "رغبات ومحرّمات"، وعلى رغم عرسها هذه الحواس في الحضور الكثيف للنهدين والوركين والقدمين وإغراء الجسد والانقضاض على اللذة، ها هو صمت صوفيّ عميق يتغلغل مذكّراً بوهميّة الإشباع الحسّي: "أليست متعة الحواس سراباً/ يحسبه الظمآن ماء/ حتى إذا إليه جاء/ وجده وهماً وللحقّ حجاباً؟"(ص179 ). وفي " خلوة ليلة السفر" التي تضجّ أيضاً بالشغف والشوق والأحاسيس، يفقه صليبا مجدّداً تلك الوهميّة السرابيّة حتى في ذروة اليقظة، وكأنه حين يقول: "وهل اليقظة سوى أخت للمنام؟"(ص 150 )، يستحضر عمر الخيّام القائل: "وما حقيقة الكون لناظرها سوى مجاز".
بين قدسيّة الصمت "فطوبى لصمت فتّح الجوارح" (ص 208 )، والرغبة المبتسرة "اليوم حول الهيكل طفنا/ فمتى ندخل قدس الأقداس؟"(ص 209 )، وجه مازوشيّ يبرز متّخذاً بعداً صوفيّاً توحّدياً وكأنه يقول مع فخر الدين الرازي: "ليست اللذات الحسيّة سوى دفع للألم"، فيسبّح صليبا أقنوم الألم واللذة: "سبحان من جعل الألم واللذة يجتمعان/ وفي الأنّة والآه يتوحّدان/ وجهان لزفرة واحدة يغدوان".
لذّةٌ مبتكَرة هذي المزاوجة بين المقدّس والمحرّم، تنبض على إيقاع ثنائيّةٍ كونيةٍ أزليّة. ونشيدٌ واحد متقطّع الأنفاس هو "الرغبة المبتسرة"، تَتلوّى عند غنائه أوتار قيثارة حرّى، وتنعتق الرغبة من صمتٍ دهري عابثةً منشطِرة، نصفها يسقط عن حافّة الروح أمّا النصف الآخر... فانتظارٌ ممتع لاكتمال اللذّة!
* كتاب "الرغبة المبتسَرة- محاولات وأبحاث في المحرّم" للدكتور لويس صليبا، أستاذ ومدير أبحاث في الأديان المقارنة \ باريس، ومتخصّص في الفلسفة والتصوّف. صدر له عن دار بيبليون أكثر من خمسة وثلاثين مؤلّفاً في الدراسات الإسلامية وفي الدراسات الهنديّة والفيديّة، في التصوّف وفي الدراسات اليهوديّة. منها: "أقدم كتاب في العالم: ريك فيدا" دراسة، ترجمة وتعليقات. "المعراج من منظور الأديان المقارنة" دراسة لمصادره السابقة للإسلام ولأبحاث المستشرقين فيه. "دراسة للأثر اليهودي في الحديث النبوي والتفسير" مدخل نقدي وتنقيح وترجمة كتاب كعب الأحبار لإسرائيل ولفنسون. "الصمت في المسيحية"، مفهومه واختباراته في الإنجيل وكنائس المشرق والغرب.